يوماً بعد آخر يظهر أنّ لبنان بات محكوماً بمشهدين تتفاوت حدود الجمع والفصل بينهما. مشهد داخلي يرسمه مساران متناقضان تماماً هما: مسار الانهيار المتفاقم بوتيرة متسارعة، وليس أدلّ عليه من “طوابير الذلّ” وفقدان الأدوية الأساسية، ومسار مكابرة السلطة على الانهيار من خلال التعطيل المتواصل لأيّ حلول سياسيّة داخلية تفتح الباب أمام حلولٍ للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتناسلة والمتداخلة على نحو “جهنّميّ”.
بإزاء المشهد الداخلي الانسداديّ والقاتم، يبرز مشهدٌ “خارجي” يتمثّل بالحراك الدبلوماسي الدولي – العربي المكثّف تجاه لبنان على وقع بلوغ أزمته الإنسانية عتبات خطيرة. وهو حراك يظهر توالياً أنّه ذو مسارين:
كان لافتاً اعتبار السفارة الفرنسية في بيروت، في بيانها عشيّة زيارة السفيرة الفرنسية ونظيرتها الأميركية إلى السعودية الخميس، أنّ هذه الزيارة الاستثنائية، في شكلها ومضمونها، هي “امتدادٌ” للاجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية كلّ من واشنطن وباريس والرياض في إيطاليا في 29 حزيران
الأوّل: إغاثي يتّصل بتقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب اللبناني والجيش والقوى الأمنيّة.
والثاني: متّصل بتشكيل الحكومة.
وهما مساران يتفاوت اتّصالهما وانفصالهما بحسب الظرف السياسي، الذي لا يبدو حتّى الساعة مؤاتياً لإبصار الحكومة النور. لهذا كلّه لا بدّ من إغاثة اللبنانيين قبل فوات الأوان، أي قبل تطوّر أزمتهم وتحوّلها من إنسانية بحت إلى إنسانية – أمنيّة، الأمر الذي تتوجّس منه الدول الغربية، ويحثّها على التحرّك بوتيرة أسرع لتطويق هذه الأزمة قدر الإمكان.
في هذا السياق لم يكُن قليل الدلالة تحذيرُ وزير الخارجية الفرنسي، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأميركي في باريس في 25 حزيران، من “المأساة التي يمكن أن تقع في حال تفتّت هذا البلد أو زال”. لقد كان كلام الوزير الفرنسي بمنزلة جرس إنذار دولي لخطورة الوضع اللبناني وارتداداته الإقليمية والدولية. وهي المرّة الأولى التي يتمّ الحديث فيها عن إمكان زوال لبنان!
عمليّاً كان لقاء جان إيف لودريان وأنتوني بلينكن نقطة انطلاق التحرّك الدولي – العربي تجاه لبنان. وأهمّيّة هذا اللقاء أنّه يكرِّس التحوّل في أسلوب السياسة الخارجية الأميركية بعد انتخاب جو بايدن، ويترجم التحوّل في طبيعة العلاقة بين باريس وواشنطن في ما يخصّ الملفّ اللبناني. وهذه نقطة شديدة الأهميّة بالنسبة إلى “حزب الله”. لذلك هو يقابل هذا التحوّل بتحوّل في تعاطيه مع المبادرة الفرنسية “الموسّعة” تجاه لبنان. وقد بدا ذلك واضحاً في الهجوم الإعلامي الذي شنّه الحزب على “التدخّل الفرنسي”، والذي لم يقتصر على الجانب السياسيّ من هذا التدخّل، بل تعدّاه إلى جانبيْه الاقتصادي والاجتماعي.
لكنّ هذا الهجوم يأتي واقعياً في سياق هجوم استباقي إعلامي وسياسي يقوم به الحزب عبر أجهزته وأذرعه الإعلامية والسياسية، لا استهدافاً للمبادرة الفرنسية بصيغتها العريضة وحسب، وإنّما لمجمل التحرّك الدولي – العربي تجاه لبنان، بما فيه التحرّك الفاتيكاني.
الأكيد والحال هذه أنّ الحزب يرصد بدقّة هذا التحرّك، منذ لقاء لودريان – بلينكن في 25 حزيران، ثمّ لقاء البابا فرنسيس بالأخير في الفاتيكان لمدّة 40 دقيقة في 28 حزيران عشيّة “يوم الصلاة والتأمّل من أجل لبنان” الذي نظّمه الفاتيكان في الأوّل من تموز. وقبله بيوم واحد عُقِد لقاء ثلاثي بين وزراء خارجية كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية، أعلنه بلينكن في تغريدة عبر “تويتر” تحدّث فيها عن “إغاثة” الشعب اللبناني.
الحزب محكومٌ بإعادة الربط المُحكم بين الوضعين اللبناني والإقليمي – الدولي، وهو ما سيؤخّر من جديد الحلّ السياسي المتّصل بالحكومة
وفي السياق عينه، كان لافتاً اعتبار السفارة الفرنسية في بيروت، في بيانها عشيّة زيارة السفيرة الفرنسية ونظيرتها الأميركية إلى السعودية الخميس، أنّ هذه الزيارة الاستثنائية، في شكلها ومضمونها، هي “امتدادٌ” للاجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية كلّ من واشنطن وباريس والرياض في إيطاليا في 29 حزيران، وتذكيرها بلقاء لودريان وبلينكن في 25 حزيران. هذا يدلّ على أنّ التحرّك الدولي – العربي تجاه لبنان لم يعد مساراً متقطّعاً وتتولّاه فرنسا بشكل خاص، بل أصبح مساراً متواصلاً تتولّاه مجموعة ثلاثية قوامُها العواصم الثلاث المذكورة.
هذا تطوّر لا يمكن لـ”حزب الله” أن يبقى مكتوف الأيدي حياله. ولذلك فقد بدأ يحفّز أدواته السياسيّة والإعلامية ضدّه، وبوتيرة تصاعدية، خصوصاً في ظلّ الظرف المحلّي والإقليمي – الدولي، وأبرز تطوّراته “التعثّر” و”الغموض” اللذين يكتنفان مسار المفاوضات الأميركية الإيرانية في فيينا بعدَ انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً لإيران.
في المقابل، كانت زيارة الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي إلى واشنطن، التي تضمّنت لقاء كبار المسؤولين، لافتة في توقيتها بعد “تعثّر” مفاوضات فيينا، وفي مضمونها. وقد اعتبرت شبكة “CNN” أنّها “تمهّد لعلاقات دافئة” بين المملكة والولايات المتحدة، مع العلم أنّ المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية تكلّم، عقب لقاء بن سلمان وبلينكن، عن “جهود سعودية لمساعدة الشعب اللبناني، بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا”، مشيراً إلى استضافة السعودية سفيرتيْ واشنطن وباريس في لبنان لـ”مناقشة خطورة الوضع في لبنان”.
إلى ذلك، أعلن البيت الأبيض أنّ بايدن سيستقبل ملك الأردن عبد الله الثاني في 19 تموز. ومن المرتقب أن يزور رئيس الحكومة الإسرائيلي الجديد واشنطن نهاية تموز، وسيكون الملف الإيراني أساسياً في مباحثاته.
كلّ هذه الزيارات تعكِس اهتمام واشنطن بتطمين حلفائها التقليديين في المنطقة، في لحظة تقليص وجودها العسكري فيها بالتزامن مع انسحاب قواتّها من أفغانستان، وفي لحظة بلوغ مسار المفاوضات النووية في فيينا ذروة تعقيداته، ولو لم يطرأ بعدُ تطوّر “دراماتيكي” يجهضه نهائياً.
لذلك كلّه، الحزب محكومٌ بإعادة الربط المُحكم بين الوضعين اللبناني والإقليمي – الدولي، وهو ما سيؤخّر من جديد الحلّ السياسي المتّصل بالحكومة. فإذا كان التحرّك الغربي – العربي تجاه لبنان يحاول إقامة فصل، ولو ضئيلاً، بين المساعدات الإنسانية العاجلة للبنان وبين تشكيل الحكومة، فإنّ الحزب لا يهمّه هذا الفصل، بل هو يأخذ بالمدلولات السياسية لأيّة إغاثة دولية – عربية للبنان، خصوصاً أنّ هذه الإغاثة نفسها تحوّلت بالنظر إلى وتيرتها وحجمها المرتقب إلى عملية سياسية أيضاً.
هذا ما يفسّر محاولة الأمين العام لحزب الله، خلال خطابه في 5 تموز، الربط بين الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وبين الحصار الأميركي للبنان. وهو ما سارع رئيس الحكومة المستقيل حسّان دياب إلى تبنّيه وتوسعته ليشمل اتّهام المجتمع الدولي بمعاقبة اللبنانيين، فكان ردّ السفيرتين الفرنسية والأميركية الحاسم وغير المسبوق، والذي لا يطول دياب حصراً، بل السيّد حسن نصرالله أساساً.
هذا جانب أساسي من المدلول السياسي للإغاثة العربية والدولية للّبنانيين. وهو جانب معطوفٌ، بالنسبة إلى الحزب، على كيفيّة ترجمة هذه الإغاثة ووتيرتها من حيث التأثير المحتمل على المجريات السياسية في لبنان، وتحديداً الانتخابات النيابية المقبلة.
إقرأ أيضاً: لبنان في “حالة حرب”… والاستنفار الفرنسيّ الأميركيّ غير مضمون النتائج
فإذا كان أيّ تطوّر للمسار الحكومي محكوماً مسبقاً بموقف حزب الله منه، فإنّ مسار الانتخابات النيابية قد يكون مختلفاً، ولو قليلاً، لجهة حدود تحكّم الحزب به. إذ إنّ الإغاثة الغربية – العربية للبنان ستعطي دفعاً سياسياً للقوى المناوئة للحزب، وستظهره، على الرغم من فوائض قوته، عاجزاً عن تقديم أيّ حلول للأزمة الإنسانية المتفاقمة.
لكنّ هذا يتوقّف في المقابل على جاهزيّة هذه القوى للتعامل مع التحرّك الدولي – العربي، وهي جاهزية يشوبها الغموض والتردّد. لكن مهما يكن من أمر هذه القوى فإنّ الحزب سيقابل هذا التحرّك بمزيد من التصعيد السياسي والإعلامي تحت عنوان “فرنسا برّا برّا”، بالنظر إلى أنّ باريس لا تزال حجر الزاوية في مجمل هذا التّحرّك.