عشت في مخيم اليرموك أكثر من 28 سنة، ترعرعت خلال هذه الأعوام في مكان كان فيه عدد الفلسطينيين 175 ألف، أي أقل بكثير من السوريين الذين يسكنون المخيم الذي يُعتبر البوابة نحو جنوب دمشق.
سنواتي الدراسية الأولى كانت في مدارس الأونروا، ولعل أكثر ما حُفِر في ذاكرتي من تلك المرحلة مقولة “مصير كل ثورة في العالم النصر”؛ هذه المقولة علمنا إياها معلم الرياضيات حينها الأستاذ فراس حمدان الذي كان يقتطع بضع دقائق من حصته الدراسية ليتكلم فيها عن فلسطين، ومثله أستاذ الموسيقى الذي كان يستغل وقت حصته ليعزف لنا أنغاماً من التراث الفلسطيني على آلة الناي، وكذلك أستاذ العلوم جمال عبد الغني الذي كان يجهد وراء تعليم كل منا لإيمانه بأن التعليم أسلوب نضال للاجئين الفلسطينيين من أجل العودة.
حالة الانتساب إلى الفصائل موجودة لدى بعض التنظيمات، ولا سيما التي تؤمن دخلاً شهرياً يساعد على العيش، بينما حالة الانتماء فهي في الغالب غير موجودة لأسباب عديدة، منها غياب التعبئة لدى معظم التنظيمات، باستثناء التنظيمات الإسلامية
كنت تلميذهم بعد سنة من عقد اتفاق أوسلو 1993، وكان ذاك التحصيل الوطني رافداً لي وللآلاف من طلبة مدارس الأونروا في تلك المرحلة في مخيم اليرموك، حيث استمر معظمنا في مجالات متعددة مع الانخراط في أعمال ذات بُعد سياسي ووطني.
مرّ الوقت وخرجت مثل غيري من سورية نحو آفاق جديدة مفتوحة، أو مسدودة بسبب الأوضاع التي آلت إليها سورية، ذهبت إلى لبنان، وبطبيعة الحال سكنت في مخيم، على اعتبار أن اللاجئ للاجئ.. وكنت في الأعوام السابقة من العاملين في الإعلام الفلسطيني الفصائلي، وعلى اطلاع جيد على أحوال المخيمات الفلسطينية المعيشية والسياسية والاجتماعية، إلّا إن المعاينة والمعايشة الواقعية مختلفة تماماً عن التقارير التي يمكن تحريرها بما يتلاءم مع هوى المجلة أو الجريدة.
فخلال وجودي في أوساط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ تسعة أعوام انخرطت في الكثير من التجارب والأحداث والمحاولات لرأب الصدوع الكثيرة في أوساط الشباب الفلسطيني، المنشغل حيناً بلقمة عيشه ورغباته في تحصيل قشة للنجاة من الواقع، لكن مع حلول أية أزمة وطنية يهبّ هؤلاء للتظاهر والهتاف، ومع ذلك لم يكن بعض المخيمات يشهد ذاك الحضور
المؤثر اللافت، وأكثر ما كنت أنتبه إليه هو حديث البعض عن مخيم آخر خرج وتظاهر، فلماذا لا نفعل مثل أهله، هذه العبارات استرعت انتباهي كشخص في إمكانه المشاهدة من الخارج، ولو نسبياً.
في التدقيق، تبين أن حالة الانتساب إلى الفصائل موجودة لدى بعض التنظيمات، ولا سيما التي تؤمن دخلاً شهرياً يساعد على العيش، بينما حالة الانتماء فهي في الغالب غير موجودة لأسباب عديدة، منها غياب التعبئة لدى معظم التنظيمات، باستثناء التنظيمات الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي)، واللافت أكثر أن هناك أبناء تنظيمات يسارية ينتمون فكرياً إلى اليمين، وهنا الانتماء الفكري هو في واقع الحال التديّن التقليدي ورفض حالة الدولة المدنية على سبيل المثال، بينما في حديث سياسي فمن السهل أن ينجر ابن تنظيم ما للدفاع عن توجهات تنظيمه السياسية بفكرة قد تكون مناقِضة لما تسلكه قيادته، وهنا تظهر، إن صح التعبير، “السياسة الشعبية” التي تدلل من جانب آخر على حالة الانتساب لا الانتماء.
يغيب الشعور بالأمان لدى اللاجئين من خلال غياب الدور الفاعل للفصائل في ظل جائحة كورونا وتدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان عموماً
الحديث عن هذه الحالة ليس هو المشكلة في حد ذاته، على الأقل حين يتم وضع الأسباب التي أوصلت اللاجئين في المخيمات إلى هذه الحالة من العلاقة بممثليهم الوطنيين، ولعل من تلك الأسباب وضع بعض المخيمات، من انفلات للسلاح العشوائي الذي يجعل حياة الآمنين مهددة على الدوام، وحالة انتشار تعاطي المخدرات والاتجار بها في بعض المخيمات، عبر شخصيات لها وزنها وصلاحياتها في تنظيماتها لدرجة أن مَن يحاول تغيير هذه الحالة سيضطر إلى إجراء حسابات دقيقة لدراسة النتائج والخسائر والأرباح..
وعلى المنوال ذاته يغيب الشعور بالأمان لدى كثيرين من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حين يرتكب بعض المسؤولين سلوكاً ضدهم، فمثلاً خلال تظاهرات حق العمل في سنة 2019، ظهرت صورة لأمين سر اتحاد نقابات العمال – فرع لبنان وهو يقبّل رأس صاحب القرار الذي أجّج المخيمات وقتها، أي وزير العمل حينها كميل أبو سليمان؛ ويغيب الشعور بالأمان لدى اللاجئين من خلال غياب الدور الفاعل للفصائل في ظل جائحة كورونا وتدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان عموماً، والمخيمات ضمناً، فلم يخرج عليهم أحد بخطة طوارئ تطمئنهم، في حين تخرج النداءات من بعض المخيمات لمطالبة المغتربين بمد يد العون لتأمين بعض المال لتوفير الوقود من أجل مولدات الطاقة وتأمين بعض المواد الغذائية احتياطاً للأيام القادمة.
هذه الأوضاع تسابق اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان بشأن مآلاتهم واختياراتهم، فلا يجد أحد منهم جدوى من الحديث عن المشروع الوطني الفلسطيني، بينما حياتهم مهددة، وأولادهم معرّضون في كل لحظة لمختلف أنواع الانتهاكات الإنسانية البسيطة، فضلاً عن حقوقهم المدنية البسيطة غير الموجودة، بحكم القوانين السارية في لبنان، إلّا إن الحديث عن فلسطين وحق العودة إلى الديار دائر دائماً وبأشكال متعددة، فالإيمان هنا في القلب، وبطرق العودة المتعددة التي لا تتضمن مشروعاً وطنياً غُيِّب اللاجئ عنه ليبقى أسير المخيم، أو الهجرة من أجل زيارة فلسطين.
إقرأ أيضاً: أيّ “حماس” يمثّل إسماعيل هنيّة؟
وعندما بدأت بالحديث عن نشأتي في مخيم اليرموك، قصدت أن حالة الرفاه التي عاشها الفلسطينيون حينها أمّنت لهم الوقت والإمكانات للتفكير في الفعل السياسي المباشر وغير المباشر، فالمخيم الذي كان فيه أكثر من مسرح ودار سينما ونحو عشر مكتبات يصعب في معظم أوقات دوامها إيجاد مقعد شاغر فيها، يمكن لأهله أن يتجاوزوا المنظومة السياسية الفلسطينية حين تقصّر وتبتعد عن دورها الأساسي الذي وُجدت من أجله، ولعل آخر ما أذكره في مخيم اليرموك حادثة خلال تطور الأوضاع في سورية سنة 2012، حين اجتمع أحد قادة الفصائل الفلسطينية ببعض الناشطين، ولا سيما من أبناء الفصائل، لبحث إمكان تحييد المخيم، فكان التعليق على كلامه من معظم الجالسين “تركتم أهالي المخيم منذ أوسلو.. وهم اليوم لا يعرفون أحداً منكم، لذا، لن يستجيب لكم أحد..”
*أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.
*نقلاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.