بعد 8 أشهر من بدء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، وتحديداً صباح الحادي عَشر من أيلول 2001، كانت الولايات المتحدة الأميركية على موعدٍ مع الهجوم الذي سيُغيّر وجهَ التّاريخ. يومها، كان رامسفيلد يجلس خلفَ مكتبه داخل مقرّ وزارة الدّفاع الأميركيّة، يُشاهد عبر التّلفاز الصّور المُباشرة للهجوم الذي استهدفَ برجَيْ التّجارة في نيويورك. وما هيَ إلا لحظات حتّى اهتزّ الجانب الغربيّ للمبنى ذي الأضلاع الخمس، الذي يرمُز للقوّة الأميركيّة، بعد اصطدام طائرة مدنيّة يقودها الإرهابيّ “هاني صالح حنجور”.
في البداية، ظنّ موظّفو وزارة الدّفاع أنّ الهجوم استهدف مكتب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. إلّا أنّه في حقيقة الأمر كان رامسفيلد قد وصلَ مُهرولاً على قدميه إلى الجانب المُستهدَف من مبنى البنتاغون ليلتقِطَ قطعةً مُتناثرة من الطّائرة ويقول: “إنّها تابعة للخطوط الجويّة الأميركيّة”.
بعد مشاهد 11 أيلول التي عايشها رامسفيلد، قرّرت إدارة جورج بوش الابن “الحرب على الإرهاب”. كان “دون” أحد أبرز المُتحمّسين للحرب على أفغانستان كانتقامٍ لهجمات 11 أيلول
وعن أولى لحظات ما بعد الهجوم على مبنى وزارة الدّفاع، يصفُ الوزير دونالد رامسفيلد المشهد في كتابه “المعروف والمجهول”، قائلاً: “كان عدد قليل من العاملين في البنتاغون يبذلون ما في وسعهم لمساعدة الجرحى. شاهدت بعضَ من يرتدون الزّيّ العسكريّ يركضون نحو المبنى المحترق على أمل إخراج المزيد من الجرحى. وسمعت أحدهم يقول “نحن بحاجة للمساعدة هنا”. ركضت، نظرت إليَّ امرأة شابة كانت تجلسُ على العشب، مصابة بكدمات، وملطّخة بالدّماء قليلاً. على الرغم من أنّها لم تستطع الوقوف، قالت لي: “يمكنني المساعدة”.
وينقُل الصّحافيّ غريت غراف (Garrett Graff) في كتابه “The Only Plane in the Sky: An Oral History of 9/11” عن ضابط الحماية في وزارة الدّفاع أوبري ديفيس قوله: “بقي العاملون في مركز الاتصالات يسألون عن مكان الوزير رامسفيلد، وبقيت أُردّد لهم أنّه في عهدتنا، لكنّهم لم يسمعوا”.
بعد مشاهد 11 أيلول التي عايشها رامسفيلد، قرّرت إدارة جورج بوش الابن “الحرب على الإرهاب”. كان “دون” أحد أبرز المُتحمّسين للحرب على أفغانستان كانتقامٍ لهجمات 11 أيلول، خصوصاً أنّه من المؤمنين بالإمبراطورية الأميركيّة واستخدام القوّة لتحقيق الغايات.
العراق والسّجون والتعذيب: “دون” إلى التقاعد
على الرّغم من عدم تمكّنه من إلقاء القبض على أسامة بن لادن يومها، منحته الإطاحة السريعة بنظام طالبان في أفغانستان موقعاً قويّاً داخل إدارة بوش الابن، وصارَت وزارة الخارجيّة التي كان يرئسُها كولن باول في المرتبة الثّانية.
صارَ واضحاً منذ أواخر 2001 أنّ الإدارة الأميركيّة باتت مُصمِّمة على الإطاحة بنظام صداّم حسين.
قبل انتخاب بوش، كتب دونالد رامسفيلد، بالاشتراك مع ديك تشيني وبول وولفويتز، مذكّرة حملت عنوان “إعادة بناء القدرات الدفاعية للولايات المتحدة” في أيلول سنة 2000، أي قبل عام من أحداث 11 أيلول 2001. وجاءَ في المذكّرة أنّ “أهمّيّة الوجود الأميركي في الشّرق الأوسط وأسبابه تفوق سبب وجود صدام حسين على رأسِ السّلطة”.
كاربينسكي: “تضمّنتْ الأساليب جعل السّجناء يقفون لفتراتٍ طويلة، الحرمان من الّنوم، تشغيل الموسيقى لأعلى صوت، جعلهم يجلسون بوضعيةٍ غير مريحة
بعد غزوِ العراق ربيع سنة 2003، وإسقاط نظام صدّام حسين، بدأت فضائح السّجون تُلاحق رامسفيلد بعد تسريب صور التعذيب والإذلال من سجن “أبو غريب”، وبرنامج “أساليب الاستجواب المعزّز” أو “Enhanced Interrogation Techniques” (EIT).
EIT هو برنامج الحكومة الأميركيّة للتعذيب المُمنهج للمحتجزين لدى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة استخبارات الدّفاع (DIA)، وبعض مكوّنات القوات المسلّحة الأميركيّة في عدّة مواقع حول العالم، مِن ضِمنها مُعتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب.
وعن دور رامسفيلد في برامج التّعذيب، قالت العميدة في الجيش الأميركي جانيس كاربينسكي، وهي المسؤولة عن إدارة سجن أبو غريب حتى سنة 2004، إنّها رأتْ رسالةً مُذيَّلة بتوقيع وزير الدفاع رامسفيلد تُجيز استخدام أساليبٍ مُعيّنةٍ خلال الاستجواب.
وأضافَت كاربينسكي: “تضمّنتْ الأساليب جعل السّجناء يقفون لفتراتٍ طويلة، الحرمان من الّنوم، تشغيل الموسيقى لأعلى صوت، جعلهم يجلسون بوضعيةٍ غير مريحة… لقد أجاز رامسفيلد هذه الأساليب المحدّدة”. وبحسب كاربينسكي فإنّ توقيع رامسفيلد كان مرسوماً بخطّ
يده على الرسالة فوق اسمه المطبوع، وإلى جانب توقيعه كُتِب الهامش: “إحرصوا على تحقيق هذا”.
لاحقت فضائح السّجون رامسفيلد حتّى استقال سنة 2006، إلّا أنّ الرّئيس بوش رفض استقالته. وفي وقتٍ لاحقٍ من السنة نفسها، أقال الرّئيس بوش رامسفيلد من منصبه، ليسَ بسبب انخراطه في برنامج التعذيب، لكن بسبب إخفاقات الجيش الأميركيّ في العراق التي أدّت إلى خسارة الجمهوريين الأغلبيّة في مجلس النّوّاب.
إقرأ أيضاً: رامسفيلد (1/2): المُتغطرِس الذي صافحَ صدّام وأسقطه
يومها، أعلن بوش إقالة رامسفيلد من داخل مبنى وزارة الدّفاع قائلاً: “بعد سلسلة من المناقشات اتفقت مع الوزير رامسفيلد على أنّ الوقت حان لقيادة جديدة في البنتاغون”. وأعلن بوش تعيين مدير الاستخبارات المركزية السّابق روبرت غيتس مكانه. وهنا تقاعد “دون” مُغادراً عالم السّياسة ليكتبَ مذكّراته وينشرها سنة 2011.
عُرِفَ وزير الدّفاع الأميركي السّابق باندفاعِه وروحهِ القتالية. لكن في المُقابل عُرِفَ بأخطائه القاتلة. فقد أظهر ثقة بنفسه كانت في بعض الأحيان أقرب إلى الغطرسة، فكان أن خسر الشّعبيّة في أوساط القيادات العسكريّة والسّياسيّة، وحتّى بين المواطنين العاديين.
كان شريكه في غزوتيْ أفغانستان والعراق الرّئيس الأسبق جورج بوش الابن أوّل من سارع إلى نعي رامسفيلد: “الولايات المتحدة أصبحت أكثر أماناً بفضل دونالد رامسفيلد. نبكي موظّفاً نموذجيّاً، طيّباً جدّاً”.
اليوم، رحَلَ رامسفيلد، أوّل مسؤولٍ أميركي يصف أوروبا بـ”القارّة العجوز” لرفض بلادها مشاركته في غزو العراق. تبقى ندوب “أخطائه” ظاهرة على وجوه الأفغان ووجوه العراقيين الذين لم يكترثوا بنبأ وفاته، معتبرين أنّه أحد رموز “الاحتلال” الذي “دمّر” بلادهم.