في أثناء عملي في أرشيف تل?زيون فلسطين جاءنا شخص يعمل في إنتاج فيلم عن عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وأخبرني بأنه يعمل على إنتاج فيلم يتناول مجريات اتفاقية أوسلو. سبب الزيارة كان بغرض البحث عن صورة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تعكس شخصيته الرمزية والكاريزماتية التي كان يتمتع بها، وقال إنه بحث عن هذه الصورة في أرشيف البيت الأبيض، وفي أرشيف الرئيس الأميركي بيل كلينتون، لكنه لم يجد صورة تعكس قوة وهالة ياسر عرفات المعروفة ليستخدمها في فيلمه. وبلّغني خلال حديثنا أهمية ما نقوم به من عمل في الأرشيف، قائلاً: إنكم ترسمون هوية الأجيال القادمة بحفظكم هذه الذاكرة، هذه المواد مهمة جداً لأنها من إنتاجكم أنتم، العالم أجمع يصور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن من وجهة نظره هو، أما أنتم ففي أرشيفكم هذا تروون الرواية بألسنة وعيون أصحابها، ضحايا الاحتلال والهيمنة الإسرائيليَيْن.
الشخصية الرئيسية الأولى في الفيلم هي مونا جول، المسؤولة في الخارجية النرويجية التي خطرت لها فكرة ترتيب لقاء بين ممثلين عن إسرائيل وفلسطينيين، من منطلق إيمانها أنه يمكن للخصوم أن يجدوا نوعاً من الأرضية المشتركة لحل نزاعاتهم
شاهدتُ فيلم “أوسلو” (Oslo) من إنتاج المخرج الأميركي الداعم للصهيونية، ستيفن سبلبيرج، وبطولة أندرو سكوت وروث ويلسون، ومن إخراج بارتليت شير، ويتناول قصة ما وراء الصورة الشهيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وهما يتصافحان في حديقة البيت الأبيض سنة 1993. يسلّط الفيلم الضوء على المفاوضات السرية للغاية التي جرت في مدينة أوسلو وأدت إلى المفاوضات التاريخية واتفاقية أوسلو. لن أخوض في تفاصيل دقة المعلومات المعروضة في الفيلم من ناحية تاريخية أو سياسية، لكن سأعرض آلية رواية هذه الأحداث.
الشخصية الرئيسية الأولى في الفيلم هي مونا جول، المسؤولة في الخارجية النرويجية التي خطرت لها فكرة ترتيب لقاء بين ممثلين عن إسرائيل وفلسطينيين، من منطلق إيمانها أنه يمكن للخصوم أن يجدوا نوعاً من الأرضية المشتركة لحل نزاعاتهم، وطبعاً هذه الأرضية ستكون اقتصادية بحتة، كما أظهر لنا الفيلم في اللقاء الأول في لندن بتاريخ4 كانون الأول/ديسمبر 1992، والذي جمع كلاً من السيد أحمد قريع “أبو العلاء”، الذي كان يشغل وزيراً للمالية في منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك والبروفيسور الإسرائيلي يائير هيرشفيلد، المحاضر في جامعة حيفا. لم يكن التركيز على الجانب الاقتصادي للصراع عبثاً، بل جاء لتقزيم القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية شعب يناضل من أجل حريته واستقلاله واستعادة أراضيه، إلى قضية إنسانية يمكن حلها من خلال دعم النمو الاقتصادي وتحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين.
يبدأ الفيلم مباشرة بسرد مجريات الأحداث التي شهدتها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية السرية في مدينة أوسلو النرويجية من دون تقديم أية خلفية تاريخية أو معلوماتية عن هذا الصراع. فقد اختصر المخرج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمشهد وحيد تتذكر فيه مونا جول المسؤولة النرويجية الأحداث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية في الانتفاضة الأولى في أثناء تواجدها في فلسطين في مهمة إنسانية، وتستعيد صورة الجندي الإسرائيلي الذي لم يتمكن من إطلاق النار على الفلسطيني المقاوم، بينما فعل زميله ذلك. تأخذ الكاميرا لقطة قريبة لهذا الجندي مظهرةً الحزن والندم في عينيه في ردة فعل على ما قام به زميله من عملية قتل متعمد لشاب فلسطيني كان يتصدى بالحجر لقوات الاحتلال الإسرائيلي، في مشهد يُظهر الانحياز الكامل للاحتلال الإسرائيلي، وفي محاولة لأنسنة جيش الاحتلال الإسرائيلي وإظهاره بصورة المدافع عن النفس لكسب التعاطف والتأييد الدولي لسياساته الاحتلالية والعنصرية تجاه الفلسطينيين.
اختصر المخرج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمشهد وحيد تتذكر فيه مونا جول الأحداث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية في الانتفاضة الأولى في أثناء تواجدها في فلسطين في مهمة إنسانية، وتستعيد صورة الجندي الإسرائيلي الذي لم يتمكن من إطلاق النار على الفلسطيني المقاوم
في أثناء التحضيرات التي سبقت العشاء الذي سيجمع الوفد المفاوض الفلسطيني والوفد الإسرائيلي، اهتم روث ويلسون، الذي أدى دور تيري لارسن، بكافة التفاصيل، بما فيها توفير كل ما يضمن سير الاجتماع على أكمل وجه. كان الجانب النرويجي حريصاً على تقديم أفخر المشروبات وعدم تقديم لحم الخنزير، وعلى توظيف الطعام والشراب الفاخريْن كوسيلة لامتصاص انفعالات المشاركين والحد من الخلافات التي كانت تعكر أجواء المفاوضات أحياناً. فتقديم الفطائر والطعام الفاخر، الذي أعدّته مضيفة تدربت جيداً على التدخل بأجود الأصناف عند الضرورة، أظهر استراتيجيا احترافية للوفد النرويجي في أداء دور الوسيط في المفاوضات، والعنصرية والفوقية تجاه الوفد الفلسطيني، في تماهٍ تام مع الخطاب الهوليودي الذي امتاز على مر عقود بدعم وتبني الرواية الصهيونية .
ليس هذا فقط، بل أظهر الفيلم الوفد الإسرائيلي المفاوض بمظهر الدهاء والحكمة في التعامل مع المواقف الحرجة والشديدة الحساسية، مثل قضية اللاجئين والقدس، وبالمهنية من خلال استعانته بالخبراء من محامين ومختصين، ووضع أكثر من ألف ملاحظة على الاتفاق المقترح. بينما صوّر الجانب الفلسطيني في موقف ضعيف يسعى فقط لكسب الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للقضية الفلسطينية، ويتعامل بسطحية وجهل وانفعالية مع النقاط الخلافية الأساسية للقضية الفلسطينية.
مع انتهاء الفيلم بالصورة الشهيرة في البيت الأبيض تذكرت حديث المنتج الأميركي الذي زارنا ليطلب صورة للرئيس عرفات، كي تُستخدم في مشهد احتفالي في حديقة البيت الأبيض تتجلى فيه الرواية الإسرائيلية، وتُظهر مشهد التفوق الإسرائيلي والسيطرة الأميركية من خلال تسليط الضوء على خطاب الرئيس الإسرائيلي إسحاق رابين الذي يتصدر الشاشة، وعلى جانبه الأيسر الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بينما بدا الرئيس ياسر عرفات الواقف خلف الرئيسين خارج المشهد تماماً. وتتبع هذا المشهد لقطة يظهر فيها أبو عمار وهو ينعي رابين بعد أن اغتاله متطرف إسرائيلي، ليظهر رابين مرة أُخرى على أنه البطل صانع السلام، ويبقى الفلسطينيون خارج المشهد مجدداً.
من ناحية أُخرى أظهر الفيلم الريادة والكفاءة العالية للوفد النرويجي الذي أشرف على هذه المحادثات وسيّرها ورتّبها، كما سلّط الضوء على الدور المهم الذي أدته جول في الترتيب والتوجيه، بحيث كان لها الفضل والدور الأكبر في إنجاح المحادثات، في تشديد من المخرج على أهمية إشراك النساء وإعطائهن دوراً في العمليات التفاوضية.
إقرأ أيضاً: هوبكنز في فيلم “الأب”: فقدان الذّاكرة… كمصنع أحلام
ومن الناحية الفنية غلب على الفيلم الطابع المسرحي، إذ صُورت المشاهد الداخلية، في معظمها، في قاعات ضخمة لتضفي على الفيلم هالة وإيقاعاً واضحين، بالإضافة إلى التركيز على الإضاءة التي تسللت من نوافذ هذه القاعات مع تقدّم أحداث الفيلم، في إشارة إلى التقدم في المحادثات. وقد كان الفنان الفلسطيني سليم ضو بارعاً في تجسيد دور المفاوض الفلسطيني أبو العلاء من خلال التماهي التام مع الشخصية ومحاكاة التفاصيل الدقيقة، وهو ما جعله يؤدي الدور بصورة مقنعة.
*مديرة مركز السياسات ودراسات حل الصراع في الجامعة العربية الأمريكية، رام الله
*نقلاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية