عُرفت بلدة أنطلياس على بُعد 5 كيلومترات شمال بيروت، بتحرّكين شعبيّين تاريخيّين ضدّ الظلم، واشتُهرا باسم العامّيّة الأولى والثانية. كان الأوّل في عام 1820 رفضاً للضرائب التي تولّاها الأمير بشير الشهابي الكبير (توفّي عام 1850) بأمر من والي عكّا العثماني. والتحرّك الثاني عام 1840، الأوسع جغرافياً وطائفياً، حمل اسم عامّيّة أنطلياس، وكان ذا طابع سياسي، ويندرج في جملة الثورات في بلاد الشام ضدّ الحكم المصري المناهض للدولة العثمانية. وما هو طريف في نصّ الميثاق تشخيص المشاركين من “دروز ونصارى ومتاولة وإسلام (سنّة)” بحسب ما كان شائعاً استعماله من ألقاب وأوصاف. وكان للعامّيّة في الحالتين تأثيرات لا يُستهان بها في مصائر حكّام وشعوب.
ما نشهده ونعيشه في هذه الأيام الكالحات، ليس اندثار لبنان رفيق الحريري بكلّ ما أنجزه من أحلام وآمال، بل انمحاء لبنان كميل شمعون وفؤاد شهاب بكلّ مميّزاته ومؤسساته، إن لم يكن انعدام لبنان بشارة الخوري ورياض الصلح بميثاق العيش معاً على أرض واحدة
في تاريخ لبنان الحديث محطّات وطنية قليلة حاسمة، حدث فيها ما يقارب العامّيّات أو يشابهها، وبأقلّ قدر من الانقسام العامّ، فكانت لها آثار كبيرة. من لحظة التوافق أو الميثاق الوطني بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943، فكان التأسيس الحقيقي للبنان والاستقلال عن فرنسا، إلى عامّيّة ساحة الشهداء في 14 آذار عام 2005 التي أخرجت الجيش السوري، وصولاً إلى عامّيّة 17 تشرين الأول عام 2019 التي كادت أن تُسقط منظومة الحكم، وإن أصابتها بجراح قاتلة. تعدّد الطوائف هو نقطة ضعف النظام السياسي اللبناني، لكن إن اجتمعت كلّها أو معظمها معاً على أمر وطني مفارقٍ للطائفية، تقع المفاجآت. وهذه اللحظات عارضة لا ثابتة، وفرص سانحة من الصعب تكرارها. وبالمثل، فإنّ إجماع طائفة ما على موقف وطني معيّن، له أثر مهمّ في السياق العامّ، ولا يمكن تجاهله، ولا سيّما إن كان صادراً عن طائفة كبرى، كأهل السنّة والجماعة.
إنّ ما نشهده ونعيشه في هذه الأيام الكالحات، ليس اندثار لبنان رفيق الحريري بكلّ ما أنجزه من أحلام وآمال، بل انمحاء لبنان كميل شمعون وفؤاد شهاب بكلّ مميّزاته ومؤسساته، إن لم يكن انعدام لبنان بشارة الخوري ورياض الصلح بميثاق العيش معاً على أرض واحدة. وهذا كلّه تحت عناوين التمسّك باتفاق الطائف، وبنصوص الدستور، وبصلاحيّات رئيس الجمهورية، علماً أنّ العهد الحالي لا يُخفي رغبته في تجاوز الطائف والدستور، تعديلاً ونكوصاً إلى ما قبل 1989، بل ربّما إلى ما قبل عام 1943، إحياء للفكرة الخلافية التي لم يقع عليها الإجماع الوطني عام 1920، أي أن يكون لبنان بلد الامتيازات لطائفة واحدة.
وبذريعة استعادة الحقوق المسيحية في الدولة، يعرقل جبران باسيل، منذ ثمانية أشهر تقريباً، بوصفه الوريث السياسي للرئيس ميشال عون، والأكثر استحقاقاً لهذا الموقع، تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري. كلّما فتحوا باباً للتسوية أغلقه باسيل، والهدف بات واضحاً كعين الشمس، وهو كسر مقام رئاسة الحكومة، أي تعديل الدستور فعلاً بفرض تفسيرات غير دستورية للدستور، وتهميش البرلمان وصلاحيّاته بالقدر نفسه، وكسر سعد الحريري، وريث الحريرية السياسية، وإزاحته نهائياً من المعادلة، عبر إجباره على الاعتذار، وتحميله مسؤولية سيناريو جهنّم الذي روّج له الرئيس ميشال عون، منذ أكثر من عام، بل نُقل أخيراً عنه أنّ ضميره مرتاح، وأنّنا كلبنانيين أصبحنا في المرحلة الأخيرة قبل الخلاص من جهنّم. وما هي جهنّم برأيه؟
إنّ استغلال انهيار البلد اقتصادياً واجتماعياً من أجل حفنة أهداف سياسية، مهما تكن، هو عمل غير أخلاقي، ناهيك عن أنّه خيانة للأمانة وانتهاك للقَسَم. وهو لا يستهدف سعد الحريري شخصياً، بل يتعرّض لموقع أهل السنّة والجماعة في النظام اللبناني، ويتلاعب بمصير بلد كامل. بالمقابل، لا يمكن الرئيس المكلّف الاستمرار في مسار مسدود الأفق سلفاً، ولم يعد بمقدوره الاعتذار الآن، من دون مقابل، لأنّه حينئذ سيُحمَّل مسؤولية الانهيار في الأشهر الأخيرة، وما سيتبعه من نزول متسارع نحو القعر. فما الحلّ؟ وهل تسليم دفّة القيادة إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وانتظار مآل الوساطات، يَفِي بالغاية المرجوّة؟ هل القيادة السنّيّة في لبنان في خيار بين أمرين لا ثالث لهما، فإمّا تفويض قرار الحكومة إلى الرئاسة الأولى والخضوع لشروطها، أو تفويضه إلى الرئاسة الثانية واتّباع برنامجها الخاصّ كما توقيت الاعتذار؟!
استغلال انهيار البلد اقتصادياً واجتماعياً من أجل حفنة أهداف سياسية، مهما تكن، هو عمل غير أخلاقي، ناهيك عن أنّه خيانة للأمانة وانتهاك للقَسَم. وهو لا يستهدف سعد الحريري شخصياً، بل يتعرّض لموقع أهل السنّة والجماعة في النظام اللبناني، ويتلاعب بمصير بلد كامل
حالياً، سعد الحريري وحده في معركة وطنية مصيرية، مع أنّ ما يحدث في موقع الرئاسة الثالثة ينعكس في كلّ الأرجاء، ولا ينحصر عند أعتاب السراي. والغبن الذي يضرب طائفة بأسرها وفي كلّ المراتب، لا يعني سعد الحريري وحده، بل يعني كلّ فرد من هذه الطائفة، وهو حديث كلّ مجلس وكلّ لقاء، حتى إنّ الدعوات تتوالى منذ سنوات لتوحيد الصف، وقد بدأت خافتة ويعلو صوتها الآن. وثمّة مَن يدعو ليس فقط إلى تحصين البيت السنّيّ، أو لمّ الشمْل، بل ينادي بعضهم بمؤتمر عامّ كمؤتمر الساحل عام 1936، الذي اجتمع فيه الوحدويّون المسلمون رفضاً للكيان اللبناني، أي لاجتراح رؤية مختلفة الآن حول دور أهل السنّة في لبنان.
إنّ محاولة كسر سعد الحريري، أو أيّ شخصية سنّيّة، هي من دواعي عقد عامّيّة سنّيّة، لقاء جامع في مكان جامع، هو دار الفتوى في منطقة عائشة بكّار، يكون فيه أعيان السنّة وسياسيّوهم وعلماؤهم وناشطوهم حول الرئيس المكلّف حين يتّخذ القرار التاريخي بإزاء ما يتعرّض له المسلمون السنّة، تحديداً، من تهميش وغبن وإغفال داخل الدولة وفي مناصبها ومواقعها كافّة، بدءاً من رئاسة الحكومة، وهو ما ينعكس ضعفاً وهزالاً في الكيان السياسي نفسه، في الداخل، وفي العلاقة بين الطوائف، وفي العلاقات الخارجية للبنان مع أشقّائه العرب والدول الصديقة.
إقرأ أيضاً: ما دور جماعة الإخوان في “لَمّ شَمْل سُنُّة لبنان”؟ (2/3)
لا يمكن أن يعتذر سعد الحريري وحده. ولا يمكن أن يكون توقيت الاعتذار لغيره. في الحالتين هو انتقاصٌ من مقام رئاسة الوزراء. لا يمكن ترسيخ عرف دستوري، يجعل مصير رئيس الحكومة معلّقاً بين الرئاستين الأولى والثانية، ونصّ الدستور واضح في كيفيّة تعيين الرئيس المكلّف في استشارات نيابية ملزمة، وفي كيفيّة تشكيل حكومة في استشارات نيابية غير ملزمة، وبالتعاون مع رئيس جمهورية فوق الانقسامات الطائفية والحزبية والشخصية.
الإجماع السنّيّ على اعتذار الرئيس المكلّف هو ضربة كبرى لِما بقي من “العهد القويّ”. ومن خلاله، يخرج الاعتذار من إطاره الفردي الضيّق، إلى نطاق أرحب وأوسع بكثير، والهدف هو صيانة الدستور، أي ما يجمع المواطنين كلّهم، من عبث المغامرين بمصير اللبنانيين ووطنهم، وتصويب الاتجاه نحو المكان الصحيح. مكمن العلّة الحقيقيّة في النظام والدولة.