غداً في الأول من تمّوز تُطوى صفحة عددٍ إضافي من الضبّاط المُستحِقّة ترقياتهم من رتبة عقيد إلى عميد لينضمّوا إلى “نادي” الضبّاط “المسلوبي الحقوق” بقرارٍ مباشر من الدولة العليّة، التي تواظب على تقديم “عروضٍ خيالية” في فنّ “كيف تحطّم شعباً؟”. ولا فرق هنا بين مواطن عادي أو عسكري أو قاضٍ أو أستاذٍ جامعي…
وبالتأكيد، “السيستم” عينه، الذي تديره حفنة من العقليات الميليشياويّة، لن يضيره أن يَخسر الضابط حقّاً مكتسباً بالترقية ما دام السيستم نفسه أشرف، بإتقان، على حرمان العسكري من أدنى حقوقه. ليس تفصيلاً اليوم أن يكون أقصى طموح الأسلاك العسكرية والأمنيّة أن “تُطعِم” جنودها وضبّاطها وتحميهم من العوز بكراتين إعاشة مع رهانٍ على “كاش” من الدول الداعمة قد لا يأتي أبداً.
يقول لسان حال الضبّاط اليوم: مليارات الدولارات صُرِفت طوال العقود الماضية هدراً وفساداً، وثمّة اليوم مَن “غصّ” بتعويض ضبّاط لم يعُد يساوي شيئاً. والكارثة الكبرى عدم إدراك السلطة أنّ القصة باتت معنوية أكثر بكثير ممّا هي ماديّة
نهاية العام المنصرم دخلت قضية ترقيات الضبّاط، من رتبة عقيد إلى عميد، العالقة منذ 2019، بازار التفاوض على رزمة تعيينات أخرى عالقة بدورها بفعل الخلافات السياسية والطائفية.
الزمن زمن تصريف أعمال، والأزمات تتراكم بسرعة قياسية، ومؤسسات الدولة تتعرّض تدريجيّاً لِما يُشبِه الـShut Down بسبب شحّ البنزين والمازوت. مع ذلك، جَرَت محاولة لبتّ هذا الملف العالق، الذي يكرِّس اللاعدالة في الترقيات، ويُشكِّل ضربة معنوية كبيرة لعددٍ من الضبّاط الذين يدخلون الكلية الحربية مع هدف الخروج من السلك العسكري برتبة عميد.
طُبِخت سلّة التعيينات في الكواليس على نارٍ هادئة أواخر 2020، وكان يُفترض أن تُمرَّر مع ترقيات الضباط. وكادت الطبخة فعلاً أن تنضج على “قاعدة مرِّقلي تمرِّقلك”، لكن في اللحظات الأخيرة “أُقفِل على الموضوع”، ورُميَت ترقيات الضبّاط مجدّداً في الجارور.
نُقل يومها عن وزيرة الدفاع زينة عكر، التي واكبت تفاصيل “المقايضة”، قولها: “جهّزنا كلّ شيء، وتمّ التوافق على سلّة تعيينات تترافق مع ترقيات الضبّاط، لكن في اللحظة الأخيرة أحدهم عَرقل كل شيء”، من دون أن تُفصِح عن هويّة المُعرقِل.
عاين الضبّاط المعنيّون بالترقيات المجمّدة الانتهاك الصريح لحقوقهم، وقد دخلت بازار “البيع والشراء”. الخلاف بين ميشال عون ونبيه بري حول “دورة ضبّاط 94″، هو جزء صغير من جبل الخلافات بين الرجلين، وفي النتيجة “طِلعت برأس” الضبّاط.
بحلول 1-1-2021، استحقّت ترقية ما لا يقلّ عن 120 ضابطاً في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام، من رتبة عقيد إلى عميد، وقّع مراسيمهم وزير المال غازي وزني، باستثناء ضبّاط الجيش، بإيعازٍ من عين التينة، وأحالهم إلى رئاسة الحكومة التي أحالتهم إلى رئاسة الجمهورية.
مراسيم الـ 120 ضابطاً (تنقسم كما كلّ مراسيم ترقيات الضباط إلى دفعتين 1/1 و1/7) عالقة بسبب أزمة ضبّاط دورة 1994 (المعروفة بـ”دورة عون”)، العالقة بدورها في خرم الاشتباك الكبير بين عون وبري.
هؤلاء كان يُفترض ترقيتهم من رتبة عقيد إلى رتبة عميد في بداية 2020، بعد نيلهم أقدميّة سابقاً، لكنّ الترقية تعطّلت بفعل المتاريس المرتفعة على خط بعبدا-عين التينة.
مراسيم الـ 120 ضابطاً (تنقسم كما كلّ مراسيم ترقيات الضباط إلى دفعتين 1/1 و1/7) عالقة بسبب أزمة ضبّاط دورة 1994 (المعروفة بـ”دورة عون”)، العالقة بدورها في خرم الاشتباك الكبير بين عون وبري
يُذكر أنّ الـ120 ضابطاً هم خليط من الدفعة الثانية من دورة ضبّاط 1994، إضافة إلى ضبّاط من سائر الدورات في كلّ الأسلاك، استحقّت ترقيتهم بعد نيلهم أقدميّة، ومن دورة الحقوقيين في قوى الأمن الداخلي، وبعضهم أيضاً نال أقدميّة سابقاً. ومجموع هؤلاء يُضاف إلى الدفعة الأولى من ضباط 94، التي هي بداية العقدة (مرسوم “ضبّاط 94” المغضوب عليه يضمّ 126 ضابطاً لترقيتهم من رتبة عقيد إلى رتبة عميد، موزّعين بين 28 ضابطاً مسلماً و98 ضابطاً مسيحياً).
اللافت أنّ وزير المال وقّع مراسيم عشرة ضباط من قوى الأمن الداخلي من دورة 1994، فيما حجب هذا التوقيع عن ضباط الجيش من الدورة نفسها.
ويجدر التذكير بأنّ الأمر بات حقّاً معنويّاً للضابط، وليس مادياً بفعل تداعيات الأزمة التي حوّلت راتب الضابط إلى “بون” يَصرفه بزيارة واحدة إلى السوبرماركت، وتعويض نهاية خدمته إلى ما يشبه “مصروف” لرحلة أسبوع إلى دولة أوروبية.
يدافع عددٌ من الضبّاط عن كون الترقيات المجمّدة لا ترتّب أعباء مالية على الدولة، ولا تُرهق الكادر بتخمة العمداء: “ففي الجيش مثلاً أُحيل ضبّاط دورة 85 جميعهم إلى التقاعد، وبنسبة كبيرة ضبّاط دورة 86. وفي قوى الأمن الداخلي ملاك العمداء غير كبير، ويصل إلى نحو 56 عميداً، وهناك نحو 30 عميداً سيُحالون إلى التقاعد هذا العام. والحقوق المالية لضبّاط 2020 و2021 تمّت جدولتها مسبقاً في الموازنة، وأموالها موجودة”.
جميع الضبّاط العالقة مراسيمهم قد حُفِظت حقوقهم في جداول الترقية، لكنّ حفظ الحق مدّته سنة فقط. وبين نهاية العام 2019 وتموز 2021، لَحق الظلم بعدد كبير من الضبّاط الذين، بفعل تجميد الترقيات، أُحيلوا إلى التقاعد برتبة عقيد وفقدوا حقوقاً معنوية ومالية تجيزها لهم القوانين، لكن الصراعات السياسية حرمتهم منها.
يؤدّي عدم سلوك الترقيات مسارها إلى تراكم تدريجي للرتب والعِقد، وتداخل الدورات، وتكريس الخلل في التراتبية العسكرية، بحيث يتحمّل الضباط مسؤولية “مشكل سياسي” لا علاقة لهم به.
في هذا الإطار، تبرز مشكلة إضافية لا تقلّ سوءاً، وهي أنّ عدداً من الضبّاط برتبة عقيد، الذين ثُبِّتت حقوقهم في جداول الترقية، واقترب موعد إحالتهم إلى التقاعد من دون أن تتمّ ترقيتهم، قدّموا طلب تسريحهم على أن يخرجوا من السلك برتبة عميد من ضمن سياسة الحوافز، وفق ما ينصّ عليه القانون. (في قوى الأمن الداخلي بلغ عدد مَن قدّموا استقالاتهم 16 ضابطاً).
لكنّ هذا الواقع يصطدم بقرارٍ من مجلس الوزراء أوقف التسريح من الخدمة للقضاة والعسكر برتبة عقيد وما دون. وعلى الرغم من أنّ هذا القرار لا ينطبق على العقداء الذين قدّموا طلب تسريحهم، وأنّ القانون في المؤسسات الأمنيّة والعسكرية يتيح طلب التسريح، لكنّ مراسيم هؤلاء عالقة في رئاسة الحكومة “لِما ترتّبه من أعباءٍ مالية”، وفق مصادرها. هذه الأعباء التي باتت اليوم كالرمل في البحر من دون قيمة.
إقرأ أيضاً: ترقيات الضباط والتعيينات… التسوية “الإهانة” (1/2)
النتيجة أنّ عدم قبول طلبات تسريح هؤلاء الضباط يُفقِدهم لدى وصولهم إلى عمر 56، وهم برتبة عقيد، حقوقهم بخروجهم من السلك برتبة عميد.
يقول لسان حال الضبّاط اليوم: “مليارات الدولارات صُرِفت طوال العقود الماضية هدراً وفساداً، وثمّة اليوم مَن “غصّ” بتعويض ضبّاط لم يعُد يساوي شيئاً. والكارثة الكبرى عدم إدراك السلطة أنّ القصة باتت معنوية أكثر بكثير ممّا هي ماديّة. والأنكى أنّ السلطة، التي تتنعّم بالأمن بفضل هؤلاء الضباط، ترفع بالمقابل إصبعها اعتراضاً على إعطائهم حقوقهم”.