ثورة تشرين: تحالف عشوائية الأفكار وارتباك الحركة

مدة القراءة 8 د

في إفطار رمضانيّ جَمَع ناشطين من ثوّار بيروت، من مختلف الأعمار والتجارب، دار حديث معمّق عن الثورة وأسبابها، وتطوّراتها ومآلاتها، مع مخضرمين ذوي تجارب سياسية سابقة منذ الثمانينيات. وكانت الخلاصات مفاجئة. في هذه المراجعة النقدية من ناشطي الثورة التشرينيّة في بيروت خاصة، ممّن شهدوا أبرز مواقعها، كانت نقطة ثابتة تفيد أن لا ثورة من دون الشيعة. هذه المقولة تردّدت أيضاً في لقاءٍ خاصٍّ بترتيب البيت السنّي، جرت وقائعه في أوّل يوم من عام 2020، أي بعد شهرين ونصف شهر تقريباً من ثورة 17 تشرين. قال فيه بعض المشاركين إنّ انسحاب جلّ الشيعة من التظاهرات، بتوجيه من السيّد حسن نصر الله، عقب أسبوع من انطلاقها، أفقد الثورة زخمها. بل إنّ بعض الثوار الشيعة انقلب على زملائه بعد نداء زعيم الحزب الأقوى في لبنان، وصار ينادي مع المنادين: “شيعة، شيعة”، ردّاً على شعار “كلّن يعني كلّن” الذي لا يستثني أحداً حتى المقاومة وحزبها، إن بالمشاركة في الفساد وإن بتغطية أعمال منظومة الفساد.

أسوأ ما طلع به ثوّار تشرين، فهو انعدام الأفكار الواقعية وثرثرة الشعارات المثاليّة. تحليلاتهم ليست تحليلات، بل مرغوبات. شعاراتهم ليست شعارات، بل شتائم. تحالفاتهم ليست تحالفات، بل سكاكين طعنٍ بالرفاق

بالطبع، اتّخذ الحزب قراره الحاسم بالتصدّي، ولو بالقوّة، للتظاهرات في وسط بيروت كما في القرى الجنوبية، بعد دراسة استعلامية أوّلية لمجمل المحرّكين والمحرّضين والداعمين لثورة 17 تشرين. واستنتج أنّ المتظاهرين نوعان: عفويّ ومتعمِّد. فالعفويّ منهم معفوّ عنه، لكنه يضرّ من حيث لا يدري، أي إنّه ساذج يجري استغلاله من جهات خارجية وداخلية ولأهداف سياسية بحت لا علاقة لها بالمطالب المشروعة. والمتعمِّد منهم جرى تشخيصه على أنّه موصول بالجهات الاستخبارية الأميركية، والمراد منه تدمير البيئة الشعبية والسياسية التي يرتكز عليها الحزب في لبنان، كشكل مبتكر من أشكال الصراع. ومن الأسباب الدفينة لقرار الحزب، توجّسه أيضاً من تأثيرات الشارع اللبناني في الشارع العراقي الثائر على الأحزاب الموالية لإيران. كان الشارع العراقي قد بدأ يهدأ، عندما استلهم ثوران الشارع اللبناني ليطلق ثورته التشرينيّة المتجدّدة في الوقت نفسه.

وعليه، أطلق نصر الله لاءاته الثلاث: لا لإسقاط العهد، ولا لاستقالة الحكومة، ولا للانتخابات النيابية المبكرة. لم يعترف بأيّ مسؤولية عن أداء المنظومة التي يرعاها، وعن الحلفاء الذين يلوذون به عند الشدائد. ومع الوقت، نجح في حماية العهد من السقوط، وفي إحباط فكرة الانتخابات المبكرة، فأُجبر رئيس الحكومة حسان دياب على الاستقالة في 10 آب الماضي بعد يومين من دعوته لانتخابات مبكرة، وحُذف المطلب نفسه من النصّ الأصلي للمبادرة الفرنسية التي وُلِدت عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب. لكنّه فشل في العقدة الأساسية في النظام السياسي، وهي رئاسة الحكومة. بذل الثنائي الشيعي كلّ جهد ممكن، لتثبيت أقدام الحريري في السراي، عبر التواصل المباشر معه، ومن خلال موجات القمع المتتالية ضدّ المعتصمين في وسط بيروت، وعبر إطلاق الورقة الإصلاحية التي رعاها الحزب بشكل خاص، لكنّ الحريري استقال بعد 13 يوماً من انطلاق الثورة، فاتحاً الباب لانتقال الضغط الشعبي إلى البرلمان وقصر بعبدا.

أدّت استقالة الحريري إلى زعزعة المنظومة التي تكاملت أركانها بالتسوية الرئاسية عام 2016، وتعزّزت صفوفها بالانتخابات النيابية عام 2018. ومع فشل تجربة حسان دياب في حكومة اللون الواحد، أو الحكم بواسطة “مستقلّين”، وإفشال الاستعاضة بمرشّحين بدلاء من دياب، بدءاً بإحباط تشكيلة السفير مصطفى أديب، المؤيَّد فرنسياً لقيادة المرحلة الانتقالية قبل الانتخابات، في حكومة المهمّة الواحدة، أي إنقاذ الاقتصاد، لم يعد من بديلٍ سوى الحريري نفسه، أو نسخة جديدة منه غير مؤاتية للتحالف السابق. هنا نضجت معضلة مثلّثة الأضلاع: لا بديل من التسوية الرئاسية أو تحديث مضامينها كي تشمل صهر الرئيس، ولا بديل من حكومة تصريف الأعمال كي تتصدّى للانهيار المالي، ولا بديل من سعد الحريري نفسه من أجل ترميم منظومة الحكم.

رهاناتهم فأعجب وأغرب. بعضهم راهن على حياد الحزب يتفرّج على تساقط حلفائه وانهيار منظومته. وبعضهم راهن على الأزمة المالية والاقتصادية كي يسقط النظام من تلقاء نفسه. وبعضهم راهن على سقوط الدولة ذاتها، ومجيء الوصاية الخارجية كي تدير الأمور بنفسها

بهذا المعنى، فإن الثورة، ومن دون خطّة مسبقة كما يبدو، أسقطت التسوية الرئاسية التي جعلت من النظام اللبناني أشبه بحكم شمولي، يتولّى فيه زعماء الطوائف تسيير جماهيرهم بالترغيب والترهيب، بالتوظيف والحرمان، مع التحاق سعد الحريري به أخيراً بعد سنوات المنفى الاختياري. الرئيس الحريري كان “واسطة العِقد” على حدّ تعبير الشاعر ابن الرومي، فلمّا استقال، سقطت حبّات العِقد. أي تساقطت المنظومة فعلاً، واهتزّ النظام بشدّة. لكنّ الثوار لم يتمكّنوا، مجموعاتٍ وشخصياتٍ قياديةً، من تكوين البديل المُقنِع للجماهير، ولا كان مطلب إسقاط النظام متناسباً مع الواقع المعقّد، مع قصور في إدراك جوهر النظام ودور الحزب فيه. منذ البدء، خلطوا بين اتفاق الطائف والطائفية، فانحدروا في خطابهم إلى مستوى الجهالة الدستورية والسياسية، قبل أن يفيق بعضهم إلى أنّ جماعة العهد مع إسقاط اتفاق الطائف أيضاً. ظلّوا معلّقين عند اللحظات المجيدة ما بين 17 و30 تشرين الأول، وبدأوا يتقاتلون على الغنائم قبل انتهاء المعركة. لم يقدّروا جيّداً خطورة الانشقاق الأوّل: انسحاب الشيعة من الميادين. ثمّ انقسموا أمام تكليف الدكتور حسان دياب تشكيل حكومة المستقلّين. ومع تراجع المشاركين في الاحتجاجات، انقسموا حول مقولة العنف الثوري، وقطع الطرق، والعصيان المدني. ثمّ انقسموا صراحة أخيراً، على سلاح الحزب، ولا سيّما بعد انفجار المرفأ، وكانوا حيّدوا هذه المسألة مراعاةً للشيعة الثائرين، وحرصاً على مشاركتهم في التغيير. ثمّ دخل مَن بقي منهم في برامج بعض الأحزاب التي ثاروا عليها، فصاروا جنوداً في النزاعات السياسية للمنظومة نفسها، بين المستقبل والتيار الوطني الحر، وضدّ أيّ منافس للحريري حتى لو كان شقيقه بهاء. أمّا ما جرى في طرابلس “عروس الثورة” فيما مضى، من حرق البلدية وتخريبها أواخر كانون الثاني، وما تلاه من جولة عنف وإطلاق نار وقنابل أخيراً ضدّ أهداف متنوّعة في المدينة وسقوط جرحى، فهو مؤشّر إلى انتقال “الثورة” إلى “الفوضى الأهليّة” بغضّ النظر عن معزوفة المندسّين والطارئين والمشوِّهين لمسار الثورة، وهو دليل إضافي على الفشل الذي أصاب الثورة في البدايات، فكراً ومنهجاً وتنظيماً، قبل أن ينكشف كلّ ذلك لاحقاً في تبعثر الساحات، وفي مسارات مختلفة ومتناقضة تماماً.

لا تنجح أيّ ثورة، أو أيّ حراك من أيّ نوع، في إزاحة نخبة حاكمة، إن لم يكن ثمّة نخبة بديلة جاهزة ومؤهّلة

أمّا أسوأ ما طلع به ثوّار تشرين، فهو انعدام الأفكار الواقعية وثرثرة الشعارات المثاليّة. تحليلاتهم ليست تحليلات، بل مرغوبات. شعاراتهم ليست شعارات، بل شتائم. تحالفاتهم ليست تحالفات، بل سكاكين طعنٍ بالرفاق. أمّا رهاناتهم فأعجب وأغرب. بعضهم راهن على حياد الحزب يتفرّج على تساقط حلفائه وانهيار منظومته. وبعضهم راهن على الأزمة المالية والاقتصادية كي يسقط النظام من تلقاء نفسه، بانهيار المنظومات الطائفية الضامنة للحدّ الأدنى من العيش. وبعضهم راهن على سقوط الدولة ذاتها، ومجيء الوصاية الخارجية كي تدير الأمور بنفسها، وتركّب النظام الجديد من الثوّار أنفسهم. وأقلّهم خيالاً، راهن على انهيار الليرة لإحياء الثورة العارمة، تحت عنوان “ثورة الجياع” التي لا تُبقي ولا تذر، متجاهلاً أنّ الثورات الناجحة، وهي قليلة، تقودها الطبقة المتوسّطة، لا الفقراء المُعدمون.

في هذا الإطار، لا بدّ من الملاحظات التالية:

أوّلاً، إنّ اسم الثورة لا يليق بها إلا عندما تستعمل العنف المادّي لا اللفظي فقط، وهذا غير ممكن في لبنان، لأنّه ينقلب لاحقاً إلى احتراب بين طوائف وأحزاب.

ثانياً، لا تكون ثورة إلا حين تبغي تأسيسَ جديدٍ على أنقاض القديم، وهذا أمر غير متاح في لبنان، لأنّ للنظام حرّاساً وحجّاباً أقوياء، ولا يمكن التغيير من دون رضاهم.

إقرأ أيضاً: طواحين الثورة

ثالثاً، لا يمكن للثورة أن تكون بلا قيادة، بخلاف ما ذهب إليه الدبلوماسي البريطاني السابق كارن روس (Carne Ross) في كتابه “الثورة بلا قيادة” (The Leaderless Revolutionوخاصة في لبنان، الممتلئ بقادة طائفيين أذكياء، وخبراء في قيادة الجماهير، وأصحاب كاريزما وتأثير سيكولوجي.

رابعاً، لا تنجح أيّ ثورة، أو أيّ حراك من أيّ نوع، في إزاحة نخبة حاكمة، إن لم يكن ثمّة نخبة بديلة جاهزة ومؤهّلة. فدائماً ما تحكم الأقلّية أكثريّة الناس، لكن لا بدّ للأقلّية الحاكمة، كما البديلة، أن تكون منظّمة، كما يقول عالم الاجتماع البريطاني الماركسي توم بوتومور (Tom Bottomore) في كتابه النُّخَب والمجتمع (Elites and Society).

 

* ملحوظة: هذه المقالة كُتبت قبل انتخابات نقابة المهندسين أمس الأحد.

مواضيع ذات صلة

اليوم التّالي لـ”الحزب”: تعايش السّلاح مع الرّقابة الأميركيّة؟

ستّون يوماً ستحدّد وجه لبنان لعشرين سنة مقبلة. وما سيحدث (فيها) خلالها سيكون أكثر تعقيداً ومشقّة من أن تحسم أمره بنود الاتّفاق الذي أنجزه المفاوض…

لا تنخدعوا “بفائض الضّعف” كما خُدعتم “بفائض القوّة”

يقول دبلوماسي عربي في مجلس خاصّ: “خدع “الحزب” اللبنانيين وخدع نفسه وجمهوره بمقولة فائض القوّة. على اللبنانيين اليوم عدم خداع أنفسهم بالمراهنة على فائض الضعف…

إيران تتعظ… وتتراجع تكتيكياً

يتراءى للبعض أنّ رياح تغيير الأسلوب الإيراني بدأت تعصف في طهران مع السماح بوصول مسعود بزشكيان للرئاسة، ليتوطّد هذا النهج بعد فوز دونالد ترامب بولاية…

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…