نادراً ما تنطبق قواعد الرياضيات على السياسة، وغالباً ما يكون تطبيقها استدراجاً لنكتة. من مثالات ذلك ما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي عن علاقات مكوِّنات السلطة اللبنانية.
فإذا كان سعد الحريري ونبيه برّي واحداً، ونبيه برّي وحسن نصرالله واحداً، أضحى الحريري ونصرالله واحداً بالتناوب. ولمّا كان نصرالله وجبران باسيل واحداً، تقفل الدائرة على أنّ الحريري وباسيل واحد.
بيد أنّ ما تتيحه السياسة، كفرع من فروع السوسيولوجيا، حيث واحد زائدٌ واحداً يساوي ما شئت، لا تقبله العلوم التطبيقية كالرياضيات التي تصرّ على أنّ الإجابة الصحيحة هي اثنان. لهذا ابتكر العونيون وصفاً لبرّي هو “حليف الحليف”، الذي ليس بالضرورة حليفاً لهم، على الرغم من تحالف الاثنين مع حزب الله.. وعلى مثال هذه البهلوانيّات في العلاقات، وُصفت العلاقة بين برّي والراحل رفيق الحريري أو برّي ووليد جنبلاط، وراوحت بين “الأعدقاء” وصديقي “غصباً عنه”!.
نحن أمام نظام سياسي فَقَد سرديّته، ويبدو عاجزاً عن إنتاج سرديّة جديدة تسمح له بتسييل القوّة الاجتماعية التي يتمتّع بها وتحويلها الى منظومة حكم تستعيد حدّاً أدنى من الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتعيد تكوين المصلحة المشتركة بين قوى النظام وجمهورها
أمّا الصدارة في علم السياسة فتبقى لمعادلة “عدوّ عدوّي صديقي”!.
مع ذلك تبقى للنكتة التي بدأنا بها ميزة خاصّة، وهي كمعظم النكات السياسية حمّالة رسائل وكاشفة حقائق لا تتيحها النصوص السياسية المباشرة. ما تقوله النكتة أنّنا أمام نخبة سياسية يشبه بعضها بعضاً في العمق، وإن تباينت مصالحها الخاصّة، وتُرجم هذا التباين خلافات بينيّة، هي في الحقيقة ممّا لا يعني الناس ولا يتّصل بمشاكلهم.
نحن أمام نظام سياسي فَقَد سرديّته، ويبدو عاجزاً عن إنتاج سرديّة جديدة تسمح له بتسييل القوّة الاجتماعية التي يتمتّع بها وتحويلها الى منظومة حكم تستعيد حدّاً أدنى من الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتعيد تكوين المصلحة المشتركة بين قوى النظام وجمهورها.
بإزاء ذلك يتمترس كلّ طرف من أطراف المنظومة خلف أقصى تجلّيات الصفة التمثيليّة التي يحملها، مخاطباً ما بقي له من قاعدة مباشرة، ومن غير أيّ هموم خارجها.
رأس المنظومة السياسية، أي حزب الله، لا يعنيه أكثر من الانسحاب من الداخل السياسي اللبناني الذي دخله مرغماً بعد انسحاب سوريا من لبنان عام 2005، منتحلاً صفة الحياد بين القوى السياسية كأنّه ليس شريكاً في نتائج ما وصل إليه لبنان. كلّ ما يعنيه في الواقع درء الانشقاقات داخل بيئته، وردّ نتائج الانهيار الاقتصادي عنها قدر المستطاع، وإجراء أعمال الصيانة الضرورية لمقوّمات حماية السلاح في المدى الواسع، وأبرزها مغازلة الجيش (وتحذيره) وابتكار تقنيّات لتحمّل ترسانة الابتزاز التي ينشرها جبران باسيل في طول الحياة السياسية اللبنانية وعرضها، وإيجاد الصيغ التي لا تجبره على اختيار بديل عن سعد الحريري.. سرديّة المقاومة تبدو ضعيفة حدّ التحلّل، حيث إنّ العدوّ، الذي يواجه اللبنانيين ويحتاجون إلى حماية منه، هو الجوع وليس إسرائيل.
جبران باسيل فلم يبقَ له ولعمّه سوى شمّاعة حقوق المسيحيين التي بدأت مطيّة لركوب هذه البيئة والعبور بها نحو رئاسة الجمهورية، وانتهت هدفاً بحدّ ذاته، ومعركةً أبديّةً، وإرث العونيّة السياسية وترجمتها المعنويّة في تاريخ لبنان
أمّا جبران باسيل فلم يبقَ له ولعمّه سوى شمّاعة حقوق المسيحيين التي بدأت مطيّة لركوب هذه البيئة والعبور بها نحو رئاسة الجمهورية، وانتهت هدفاً بحدّ ذاته، ومعركةً أبديّةً، وإرث العونيّة السياسية وترجمتها المعنويّة في تاريخ لبنان. حين كانت لا تزال للنظام سرديّة جامعة وافق عون على ترئيس العماد ميشال سليمان، ثمّ وافق الثنائي الشيعي على التنازل عن مقعد وزاري شيعي لمصلحة توزير فيصل كرامي، فشُكّلت حكومة كسرت المناصفة بين السنّة والشيعة للمرّة الأولى منذ اتفاق الطائف! أمّا اليوم فإنّ أيّ وزير مسيحي يسمّيه الحريري يعني بالحرف نهاية العونية السياسية، أو هكذا جعلها جبران باسيل، بعدما كان يحلم بأن يكون رفيق حريري الموارنة، وأن يجعل من عهد عمّه وعهده الموعود رافعةً لدور مسيحي أبعد من لبنان.
سرديّة الحريريّة لم يبقَ منها الكثير مع انهيار معظم أركان هذه الظاهرة. فعلاقات الحريريّة الدولية تبدو نبشاً في دفاتر قديمة أكثر منها عضويّةً راسخةً في نادي العالم أو جزءاً من مشروع دولي حقيقي للبنان. أمّا تبدّد الثروة فبدّد معه سمعة الكفاية الاقتصادية ولمسة السحر التي ميّزت الحريريّة، إنقاذاً وإعماراً وخلقاً للوظائف وإعادةَ تكوينٍ باهرةً للطبقة الوسطى اللبنانية.
إقرأ أيضاً: جبران… بداية العهد و”آخرته”
الحريريّة سراب نفسها الآن. وأمّا بقاء الحريري أو رحيله فلا يعدو كونه فصلاً من فصول التراجيديا الشخصية لصاحب القرار، بلا أيّ أثر وطنيّ يُذكر!
فَقَد النظام السياسي سرديّته تماماً، بكلّ ما انطوت عليه من توافقات وتحايل وتواطؤ. نظام عاجز عن ابتكار حدٍّ أدنى من مبرّرات وجوده واستمراره، لكنّه يعاند للبقاء، على أشلاء لبنان باقتصاده وناسه وأهله وتاريخه، وهذه مأساة قد تطول.. كثيراً كثيراً، وقد لا يكون فيها قريباً دورٌ لوهم طائر الفينيق.