أبراكادابرا.. أبراكادابرا… إفتح يا سمسم، إفتح يا سمسم. وسمسم لا يفتح، والتعويذة لا تنفع. كلٌّ يصيح على تميمته “يا ثورة ثوري من جديد”، وكلٌّ ينفخ في قربة مثقوبة. ما إن يخفت صياح المستغيث بتميمته التي تبدو وكأنّها تخزّن صوته، حتى تظهر على ما هي عليه. بلا حقيقة، وبلا روح. حال تميمة الثورة كحال وديعة في مصرف.
“أبراكادابرا يا ثورة.. إرحمي نفسك.. ثوري”. هذا يقول لها: “هيّا”. وذاك: “هلمّي”. والثالث: “يللا”، أو: “يكفيك تنبلة”، أو: “يكفينا يللا، انفجري”. “انفجري، ولنقل إنّها انفجرت”، ممّا علق بالذاكرة من شعر ناظم حكمت.
والرابع كمن يضغط على زرّ “ريموت كونترول” ضعفت بطّاريته. تراه يزمجر: “الآن الآن يا ثورة هات ما عندك، لا تتأخّري وإلا فات الأوان، هبّي”، والأوان لا يخضع للابتزاز. سيجارة تشعل عشرات الغابات، وفحم المنقل لا يتقبّل التحرّق.
من عجائب البلد أنّ مفاتيح تثوير الوضع فيه هي، إلى حدّ كبير، بيد المرجعيّات ذات المراس في نظام الأوضاع الجاثم، النظام المسخّر لمصلحة الأكثر ثراءً وقوّةً، سياسياً ومالياً وأمنيّاً وإعلامياً
“التأخير يعني الموت”، هذه قالها لينين عندما كان على البلاشفة إمّا الانقضاض على حكومة كرنسكي والاستيلاء على السلطة، وإمّا تركهم عرضة لتصفية الأعداء. لا تنفع عبارة “التأخير يعني الموت”، كتعويذة في كلّ الوقت. كأن تقول للتاريخ: “لا تتأخّر”، فقط لأنّك لا تحبّ له أن يتأخّر.
والنفر الخامس يتضرّع. وبعده السادس يلعن الشعب الذي لم يثُر مجدّداً بعد. السابع يتذكّر أنّ الشعب ثار ثمّ خار. وإن لم تكن هذه هي الحصيلة، فكيف تكون عواقب الأعمال؟
هذيان عامر. البلد مصاب بمسّ أكثر ممّا هو يتدحرج في هوّة الانهيار. هذيان بين مَن لم يزَل يضرب للثورة المنشودة موعداً، وبين مَن يلعن الشعب على رؤوس الأشهاد لأنّه لم يسلس السبيل إليها. لم يكن ينقص هذا البلد سوى خرافات هذا التثوير الفاقد شروطه لزيادة البلاء. ما بين أشرار من هنا، وساذجين مكابرين من هناك، ما عساها الناس تفعل؟
ومن عجائب البلد أنّ مفاتيح تثوير الوضع فيه هي، إلى حدّ كبير، بيد المرجعيّات ذات المراس في نظام الأوضاع الجاثم، النظام المسخّر لمصلحة الأكثر ثراءً وقوّةً، سياسياً ومالياً وأمنيّاً وإعلامياً. كلٌّ يمتلك مفتاحاً تثويرياً أو تفجيرياً، وتكون النتيجة أنّ القوى يوازن بعضها بعضاً بمفاتيح التثوير هذه.
يظهر أنّ شيئاً تفلّت في لعبة التوازن بين ممتلكي مفاتيح “التثوير” هؤلاء، الأمر الذي سمح بانتفاضة 17 تشرين. ثمّ عادت حليمة إلى عادتها القديمة: استرجعت القوى المهيمنة مفاتيحها التثويرية، واستخدمتها من دون مخاطرة كبيرة، لعدم تكرار كرة الانفلات غير المتحسِّب للوضع، كما في ليل 17 تشرين. وربّما كانت القوّة التثويرية الوحيدة للوضع من خارج هذا النظام الجاثم هي “الحزب الشيوعي اللبناني”.
لكنّها قوة معطَّلة ذاتيّاً إلى حدّ كبير، وتعطِّل في الوقت نفسه، وبطبيعة الحال، انبثاق قوّة تثويرية للوضع في اتجاه يساري قادر على أن يضفي شعوراً لدى الناس بالقدرة على الراهنيّة. أمّا مجموعات حراك “الثورة” غير الحزب الشيوعي، فهناك الطامة الكبرى. مكابرة على أبسط شروط التثوير الفعليّة، ومكابرة على أنّ الناس صارت في وارد آخر، وأنّ الانتفاضات كما الثورات وكأيّ شيء آخر في التاريخ يمكنها أن تخسر وتُهزَم أيضاً.
وهذا غيضٌ من فيض مشكلة بحجم الكوكب.. لها انعكاس مرير، بخاصة في منطقتنا.
البلد مصاب بمسّ أكثر ممّا هو يتدحرج في هوّة الانهيار. هذيان بين مَن لم يزَل يضرب للثورة المنشودة موعداً، وبين مَن يلعن الشعب على رؤوس الأشهاد لأنّه لم يسلس السبيل إليها. لم يكن ينقص هذا البلد سوى خرافات هذا التثوير الفاقد شروطه لزيادة البلاء
فقد “تلوّعت” الناس من تركة القرن العشرين الذي كانت فيه “الثورة” قرينة الطليعة، وحزب الطليعة، وعقيدة الطليعة. وهذه الطليعة لمّا تتولّى الكفاح والثورة، تهوي باستبداد فتقيم أشنع منه هنا، أو أقلّ منه شناعة هناك، وكلّ مجتمع ينتظر حظّه من كلّ هذا. هنا قائد ثوري تتوفّاه المنيّة باكراً، أو يغدر به أصحابه، وهناك قائد ثوري يعيش ويفنى تحت ظلّه ثلاثة أجيال متعاقبة. أو تكتسي الطليعة بلبوس حركة التحرّر الوطني، وتفلح في أن تقصي المستعمِر، ثمّ تستعين بأدواته لممارسة استعمار داخلي على جزء من شعبها أو على الشعب كلّه. وبعدما كانت تمنّي النفس بأن تقيم لبلدها نظاماً يوازي ما يعتمده المستعمِر في حاضرته نفسها، تقنعها “الضرورات الثورية” بأنّ عليها أن تكتفي بوراثة تجربة بناء المعتقلات عن المستعمِر، لا بل تحديثها وتوسيعها، فمن ذا الذي يمكنه أن يعكّر على النظام الثوري الوطني التحرّري صفو يقظته الوثّابة، إن لم يكن ربيباً لمستعمِر قديم أو لمشروع استعمار جديد عتيد.
في نهاية القرن العشرين، لعبت هذه اللوعة دوراً ساعد على الانتقال نحو مفهوم آخر تماماً للثورة، محرَّرة من كل شبهة طليعة، أو حزب طليعة، أو عقيدة طليعة، ثورة تهنّئ نفسها على أنّها “أفقيّة” بالكامل، وضدّ كلّ عَموديّة. بلا قدرة على التكتيل والمراكمة، على مصارحة الذات بأنّها تقدّمت هنا وتراجعت هناك، وأنّ عليها أن توسّع تحالفاتها تارة، وأن تباغت وتغيّر أو تراوغ وتتحسّب تارات أخرى.
ثمّ تقول لنفسك من بعد هذه السطور: “يا أخي اترك الناشطين وحظّهم، البلد وحظّه. لعلّ وعسى كلمة “أبراكادابرا” تنفع. وسمسم على التكرار يفتح”. تقول هذا، تقفز على ذهنك تلك الكلمات من سِفر الخروج، في العهد القديم. موسى الذي لم يطالب بالإطاحة بفرعون، قال له: “دع شعبي يذهب”.
إقرأ أيضاً: هيلا هو: الحرب على الناس
أليس هذا أفضل ما يُقال الآن للمتجبّرين كما المكابرين في هذا البلد؟ فرديّاً أو جماعيّاً؟ “دع شعبي يذهب”. ما الذي يعني ذلك عمليّاً الآن؟ ليس بالضرورة حثّاً على هجرة الناس، إنّما هو رفض لأيّ تغالظ أو تذاكٍ ضدّ هجرتهم. وثانياً، الفطن، بأنّ القضية اللبنانية، للعشرية القادمة، هي قضية الدياسبورا اللبنانية، الانتشار، المهجر، أكثر منها قضية المستمرّين في معاندة الوقت في البلد المنشأ.