في المشهد العراقي، يمكن توصيف المعادلة السياسية والحكومية القائمة بأنّها مرحلة اختبار أحجام وترسيم حدود المواقع والأدوار لكلّ فريق من الأفرقاء المتحكّمين باللعبة السياسية. خصوصاً أنّ المعادلة الحالية جاءت نتيجة تحدّيات معقّدة فرضتها جملة من التهديدات المصيريّة والوجوديّة التي أوصلت الأوضاع إلى ما يشبه الطريق المسدود. وقد تزايدت الحاجة إلى تدوير الزوايا للخروج من المأزق الذي أنتجته حركة الاحتجاجات أو الانتفاضة التشرينيّة من جهة، والصراعات بين الكتل والمكوّنات وصراعاتها حول المكاسب والحصص، التي حقّقتها على مدى العقدين الماضيين، إن كان على مستوى تركيبة النظام، وإن على مستوى تقاسم الدولة وإداراتها، من جهة أخرى.
لا شكّ أنّ الحكومة العراقية القائمة برئاسة مصطفى الكاظمي جاءت بناءً على توازنات خارجية وداخلية دقيقة ومركّبة. يُعتبر الكاظمي الجهة السياسية الأضعف في المعادلة التي أنتجتها هذه التوازنات وشكّلتها
المأزق الذي نتج عن المواجهات الدموية بين منتفضي تشرين والأجهزة الأمنيّة، وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في العديد من ساحات الاعتصام، قد انتهى إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي بضغط مباشر من المرجعية الدينية في مدينة النجف. هذا المأزق فرض على القوى والمكوّنات السياسية، بكل انتماءاتها القومية والعرقية والإثنية والمذهبية والدينية، البحث عن مخرج يسمح لها بالتقاط أنفاسها، وإعادة ترتيب أوراقها، وتثبيت مواقعها، استعداداً لمواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، التي كان من المفترض أن تكون مرحلة خلط الأوراق، وإعادة إنتاج صيغة أو معادلة سياسية جديدة على حساب بعض المكاسب لعدد من الأطراف، وإخراج أطراف أخرى من المعادلة أو تقليص، إن لم يكن إنهاء، دورها وتأثيرها في التركيبة، التي أنتجتها انتخابات عام 2018. إضافةً إلى ما كان من تأثير في هذه التركيبة لمعركة تحرير أجزاء كبيرة من العراق من سيطرة تنظيم داعش.
لا شكّ أنّ الحكومة العراقية القائمة برئاسة مصطفى الكاظمي جاءت بناءً على توازنات خارجية وداخلية دقيقة ومركّبة. يُعتبر الكاظمي الجهة السياسية الأضعف في المعادلة التي أنتجتها هذه التوازنات وشكّلتها.
وكانت أزمة التكليف قد مرّت بالكثير من المراحل استُخدِمت فيها جميع الوسائل لإبعاد شخصيّات كُلِّفت أو كانت مرشّحة لتولّي مهمة التكليف والتشكيل، وخضعت فيها الأطراف الدولية والإقليمية، ومعها القوى السياسية الداخلية، لابتزاز وضغط كبيرين فرضا على الجميع البحث عن مخرج وسطيّ يضمن الحدّ الأدنى من مصالح كلّ من هذه الأطراف، مع قاسم مشترك وحيد بينها هو الاتفاق الضمني على إجهاض الحركة الاعتراضية، أو على الأقلّ تأجيل مفاعيلها العملية والسياسية أكبر مدّة زمنية تسمح لهذه القوى باستعادة قدرتها على تفريغ الحراك الشعبي التشرينيّ من مضامينه، وإدخاله في صراع المطالبة بالمكاسب والحصص، وجعله طرفاً يسعى إلى أن يكون شريكاً “قيد الإنجاز” للمكوّنات الفاعلة والممسكة بالقرار، في حال لم يتحوّل إلى أداة لدى هذه المكوّنات توظّفها في سياق تعزيز حصّتها ومواقعها في العملية السياسية بوجه الأطراف الأخرى.
في المشهد العراقي، يمكن توصيف المعادلة السياسية والحكومية القائمة بأنّها مرحلة اختبار أحجام وترسيم حدود المواقع والأدوار لكلّ فريق من الأفرقاء المتحكّمين باللعبة السياسية
وإذا ما استبعدنا العامل الإقليمي العربي في بلورة المرحلة الانتقالية التي جاءت بالكاظمي إلى رئاسة الوزراء، فإنّ المتغيّر الاستراتيجي، الذي ظهر بعد الاغتيال الأميركي لرأس المشروع الإقليمي لإيران الجنرال قاسم سليماني، حوَّل أزمة تشكيل الحكومة العراقية إلى معركة إرادات بين اللاعبين الرئيسين الفاعلين على الساحة العراقية، الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهي معركة دفعت هذين الطرفين للبحث عن المساحات المشتركة، التي يمكن التوافق عليها بالحدّ الأدنى، وتساعد على قطع الطريق على انفجار أمنيّ كبير لا يريده أو يرغب به أيٌّ منهما. خصوصاً أنّ كليهما كان في حالة انتقالية، أبرز معالمها الانتخابات الرئاسية في البلدين وما يمكن أن تؤسّس له من تغيير في حدّة الصراع بتأثير من جدل العودة إلى الحوار المباشر وأزمة إعادة إحياء الاتفاق النووي.
ومن خلال الأسماء المتعدّدة، التي طُرحت خلال الأشهر الثمانية من عمر الأزمة الحكومية، بين استقالة عبدالمهدي وتكليف الكاظمي، من علي محمد علاوي ومحمد شياع السوداني وأسعد العيداني وقصيّ السهيل من الجانب الإيراني، وعدنان الزرفي من الجانب الأميركي، اختبر الطرفان قدراتهما في فرض الاتجاه الذي يريدانه على الساحة العراقية. وحاول اللاعب الإيراني تخفيف حدّة الخسارة، عبر الأسماء التي اقترحها لخلافة عبد المهدي، والحفاظ على الحدّ الأدنى من المعادلة التي سبق أن كرّسها عام 2018، وعبّر عنها سليماني بهزيمة الخصم الأميركي ثلاثة لصفر، تعبيراً عن قدرته على اختيار الرؤساء الثلاثة للجمهورية والبرلمان والحكومة، خارقاً بذلك قواعد الاشتباك التي كرّسها الصراع بينه وبين الأميركي، والقائمة على التشاركيّة المتوازنة التي لا تسمح لأيٍّ منهما بفرض الغلبة على الآخر في إطار تفاهم غير مكتوب.
في مواجهة هذه المحاولات، استُخدمت الأطراف الداخلية العراقية، ومنها رئاسة الجمهورية التي سعت، مدعومةً من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، إلى كسر المعادلة التي أرساها سليماني، عبر توجيه ضربة قاسية لجهود طهران الساعية إلى ترميم قدرتها وتحكّمها بالعملية السياسية، فطرحت اسم محافظ النجف عدنان الزرفي، وكلّفه رئيس الجمهورية برهم صالح بتشكيل الحكومة.
إقرأ أيضاً: الكاظمي لـ”أساس” (1/2): العراق الجديد هو محور المنطقة
هذا الأمر شكّل تحدّياً مباشراً للجانب الإيراني، الذي اعتبر هذا التكليف استهدافاً مباشراً لدوره ونفوذه، خصوصاً في ظل عدم وجود قنوات تواصل أو اتصال حينئذٍ بينه وبين الزرفي المكلَّف، الأمر الذي دفعه إلى البحث عن مخارج لهذه الأزمة والتحدّي، والقبول بمبدأ الانحناء أمام العاصفة التي بدأت تهدّد استمرارية دوره في العراق، فكان أمام واحد من خيارين: إمّا القبول بالزرفي وما يعنيه من دخول في مواجهة مفتوحة معه قد تؤدّي إلى الاعتراف بالهزيمة والانتقال الى مرحلة مختلفة قد يكون فيها الخيار الأمني الورقة الأخيرة في يده، وإمّا أن يقبل بالتنازل والقبول بمرشّح يترابط معه بالحدّ الأدنى من العلاقات، إلى جانب وجود قنوات تواصل قادرة على التأثير في مسارات الأمور. فكان خيار الذهاب إلى تبنّي أو القبول بتكليف الكاظمي كبديل أقلّ ضرراً من الزرفي، ويمكن التفاهم معه، خصوصاً أنّ وصوله إلى هذا الموقع سيكون نتيجة توافق إرادات، وعلى مبدأ أهون الشرّين، بحيث تستطيع طهران من خلاله تقليل حدّة التوتّر بينها وبين الإدارة الأميركية، وتقدّم حلّاً وسطاً بين القوى والمكوّنات السياسية العراقية، بحيث لا يشعر أيٌّ منها بالانتصار الكامل أو الهزيمة المدوّية.
غداً في الحلقة الثانية: صناعة رئيس الوزراء العراقي