“استنفار” فاتيكانيّ في 1 تمّوز… إطلاق “آليّات” لدعم لبنان؟

مدة القراءة 8 د

استقصد عميد مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري أن يستهلّ مداخلته خلال المؤتمر الصحافي، الذي عقده الأسبوع الماضي للحديث عن لقاء البابا فرنسيس مع “قادة الجماعات المسيحية في لبنان” في الأول من تموز، بالتذكير بالإرشاد الرسولي، “رجاء جديد للبنان”، الذي تحدّث فيه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في العام 1991 عن دعوته إلى عقد سينودس خاصّ ببلاد الأرز.

غاية ساندري من هذا الاستذكار واضحة، فهو أراد التذكير بأنّ لبنان هو في قلب اهتمامات الكرسي الرسولي وأولويّاته، وليس من الآن بل منذ عقود، وخصوصاً عندما تمرّ بلاد الأرز في “أوضاع مأسوية”. ولتأكيد ذلك، أشار ساندري إلى زيارة البابا يوحنا بولس الثاني، ثمّ البابا بنديكتوس السادس عشر للبنان. فكانت زيارة الأوّل في عام 1997 في عزّ الوصاية السورية على لبنان، وزيارة الثاني في عام 2012 في أعقاب اندلاع الحرب السورية التي هدّدت لبنان بارتدادات خطيرة عمّقت ولا تزال تعمِّق أزمته، التي وصفها البابا الحالي، في 3 آذار الماضي عقب زيارته للعراق، بأنّها أزمة وجودية. وكان البابا فرنسيس قد قال، قبل زيارته العراق، وتحديداً في رسالته إلى اللبنانيين عبر البطريرك بشارة الراعي في 24/12/2020، إنّه ينوي زيارة لبنان في “أقرب فرصة ممكنة”. ثمّ قال في الطائرة التي أقلّته من العراق إنّ زيارته المقبلة ستكون إلى لبنان “الذي يتألّم”.

تشير الأوساط المتابعة إلى أنّ ما سيصدر عن اللقاء هو “أكثر من بيان تضامني”، وترجّح أن ينتهي اللقاء بإطلاق الفاتيكان مسارين، سياسي وإنساني. أمّا المسار السياسي فسيتركّز على تأكيد ثوابت الفاتيكان في ما يتعلّق بتوازن الصيغة اللبنانية، وأهمّية قيم “العيش معاً”

تشير أوساط متابعة للحراك الفاتيكاني تجاه لبنان إلى أنّ لقاء الأوّل من تمّوز بُدِئ الاستعداد له منذ آذار الماضي، قبل أن يعلنه البابا في 30 أيار، حين قال: “سألتقي في الفاتيكان في الأول من تموز بالقادة الرئيسين للجماعات المسيحية الموجودة في لبنان، من أجل يوم تأمُّلٍ في الوضع المقلق في البلاد، وللصلاة معاً من أجل عطيّة السلام والاستقرار.”

تلفت هذه الأوساط إلى أنّ “هذا اللقاء هو ترجمة لمسار الاهتمام البابوي بلبنان، الذي انطلق في 24/12/2020 من خلال رسالة البابا إلى اللبنانيين لمناسبة عيد الميلاد، وقد دعاهم فيها إلى الاستفادة من تقلّبات الظروف الحالية لإعادة اكتشاف هويّتكم، هويّة الذين يحملون إلى العالم بأسره شذا الاحترام، والعيش معاً والتعدّدية. وتوجّه إلى المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على البقاء خارج الصراعات والتوتّرات الإقليمية، وعلى الخروج من الأزمة الحادّة وعلى التعافي”.

ثمّ في 8 شباط 2021، خصّص البابا فرنسيس نحو 4 دقائق للملف اللبناني، من أصل 20 دقيقة هي مدّة كلمته أمام أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد. وهذا دليل على مدى الاهتمام الفاتيكاني بالموضوع اللبناني.

اعتبر البابا، في كلمته تلك، أنّ “لبنان يواجه خطر فقدان هويته الوطنية، والانغماس داخل التجاذبات والتوتّرات الإقليمية”، مشدّداً على “ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويّتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعدّدي متسامح ومتنوّع، يقدّم فيه الحضور المسيحي إسهامه، ولا يقتصر على كونه أقلّيّة وحسب”.

وفي 22 نيسان، استقبل الحبر الأعظم الرئيس المكلّف سعد الحريري، حيث جدّد البابا رغبته في زيارة لبنان، وأمل أن يتمكّن لبنان، بمساعدة المجتمع الدولي، من أن يكون أرض اللقاء والتعايش والتعدّدية.

ومن الواضح أنّ المواقف الفاتيكانية حول لبنان تتضمّن كلّها بعدين رئيسيْن، الأوّل هو التشديد على أهميّة التعايش والتعدّدية بين الجماعات الدينية، والثاني إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية، وهو ما يرجّح أن يطبع مواقف البابا في اجتماع الأوّل من تموز. ذلك في وقت وُظِّفت زيارة الرئيس سعد الحريري لروما في السياسة الداخلية على نحو يعاكس التوجّهات الفاتيكانية إزاء لبنان.

وترى الأوساط عينها أنّ نداء البطريرك الراعي في 5 تموز الماضي، أي منذ نحو سنة، خلق أرضيّة كنسيّة للحراك الفاتيكاني تجاه لبنان، وصولاً إلى لقاء الأوّل من تموز بين البابا وعشرة من رؤساء الطوائف المسيحية في لبنان، الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت. وتشير إلى أنّ هذا اللقاء هو الأول ضمن “تشاور موسّع” سيلتقي البابا خلاله فئات لبنانية أخرى بحسب “طبيعة المرحلة”.

كان لافتاً كلام الوزير كاليغر، عن أنّ الفاتيكان ليس بمقدوره لوحده مساعدة لبنان، لذلك يرى أنّ على الأسرة الدولية كلّها أن تقف إلى جانب هذا البلد. لكنّ الأكيد هو حالة الاستنفار الفاتيكانية من أجل لبنان، والدليل أنّ لقاء الأول من تموز ستحضره الترسانة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لدولة الفاتيكان

هكذا لن تقتصر لقاءات البابا اللبنانية في المرحلة المقبلة، بحسب هذه الأوساط، على القيادات الروحية المسيحيّة، بل ستشمل المرجعيات الإسلامية أيضاً.

في هذا السياق، تسجّل أوساط سياسية مسيحية ملاحظة على لقاء الأول من تموز، من باب اقتصاره على المرجعيات المسيحية اللبنانية، مذكّرةً بأنّ شخصيات إسلامية، مثل محمد السمّاك وسعود المولى وعبّاس الحلبي، كانت شاركت في أعمال السينودس من أجل لبنان في التسعينيات.

تأتي ملاحظة هذه الأوساط بالاستناد إلى الثوابت الفاتيكانية تجاه لبنان ودول المنطقة، التي تركّز على العيش المشترك الإسلامي – المسيحي في هذه الدول. وقد وقّع البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب على وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبو ظبي في 4 شباط 2019. وبارك الكرسي الرسولي زيارة البطريرك الراعي للمملكة العربية السعودية في 13 تشرين الثاني 2017، وهي الزيارة الأولى لمرجعية روحية مسيحية بهذا المستوى إلى أرض الحرمين الشريفين. وعليه تسأل هذه الأوساط: “لماذا لم يدعُ الفاتيكان شخصيات إسلامية للمشاركة في لقاء أوّل تموز؟”.

لكنّ الأوساط عينها ترجّح أنّ السفير البابوي في لبنان المونسنيور جوزيف سبيتاري، الذي يشارك في هذا اللقاء، سيقوم إثره بجولة على المرجعيات الإسلامية لوضعها في أجوائه وتشكيل إطار لبناني لمتابعته.

 

ماذا يصدر عن اللقاء؟

منذ الآن بدأ السؤال عمّا سيكون بعد لقاء الأوّل من تمّوز: هل تليه مبادرات فاتيكانية سياسية وإنسانية، علماً أنّ وزير خارجية الفاتيكان المطران بياترو كاليغر قال في المؤتمر الصحافي الجمعة: “أردنا، من لقاء الأول من تموز، تكوين رؤية مشتركة مع رؤساء الطوائف ليكون لدينا وضوح في الرؤية ولنتحرّك كما يجب”. فما هو التحرّك الفاتيكاني الذي أشار إليه كاليغر؟

تشير الأوساط المتابعة إلى أنّ ما سيصدر عن اللقاء هو “أكثر من بيان تضامني”، وترجّح أن ينتهي اللقاء بإطلاق الفاتيكان مسارين، سياسي وإنساني. أمّا المسار السياسي فسيتركّز على تأكيد ثوابت الفاتيكان في ما يتعلّق بتوازن الصيغة اللبنانية، وأهمّية قيم “العيش معاً” وأن يبقى لبنان خارج الصراعات والمسارات النزاعية في المنطقة، وصولاً إلى المطالبة بتضامن دولي مع لبنان يلاقي طرح البطريرك الراعي بعقد مؤتمر دولي لبحث القضية اللبنانية.

وأمّا المسار الإنساني فيتمثّل في إطلاق آليّات جديدة للتعامل مع الأوضاع المعيشية والحياتية الصعبة في لبنان، تعزّز صمود اللبنانيين خلال هذه الفترة. وتشمل هذه الآليّات شقّاً تربوياً وآخر استشفائياً.

في المقابل، تشير الأوساط السياسية إلى أنّ دولة الفاتيكان تمتاز بعلاقات دبلوماسية فاعلة جدّاً على مستوى العالم، وهي قادرة على نسج علاقات ممتازة مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، لكن على الرغم من ذلك، لا تتوقّع هذه الأوساط أن يسفر لقاء الأوّل من تموز عن خطوات عملية، “فهو لقاء تشاوري وليس تنفيذيّاً”.

إقرأ أيضاً: لقاء الفاتيكان: أربعة أخطاء وحقيقة واحدة

وتشير الأوساط المتابعة لاستعدادات اللقاء إلى نقطة رئيسة، وهي أنّ “الفاتيكان هو مَن اشتغل على مبادرته وأعدّ مسبقاً تفاصيلها، وهو عندما يعدّ للقاء ما يكون عارفاً حدوده مسبقاً”. وفي هذا السياق، كان لافتاً كلام الوزير كاليغر، الجمعة، عن أنّ “الفاتيكان ليس بمقدوره لوحده مساعدة لبنان، لذلك يرى أنّ على الأسرة الدولية كلّها أن تقف إلى جانب هذا البلد”. لكنّ الأكيد هو حالة الاستنفار الفاتيكانية من أجل لبنان، والدليل أنّ لقاء الأول من تموز ستحضره الترسانة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لدولة الفاتيكان.

وهذا ما يدفع أوساطاً أخرى إلى الحديث عن وظيفة مختلفة للّقاء، وهي ضبط مواقف الكنائس اللبنانية، وتوحيدها على موقف واحد من الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان. لذلك ترى هذه الأوساط أنّه يجب رصد التحوّلات ضمن هذه الكنائس لجهة هيكليّاتها ومواقفها كارتدادٍ للاهتمام الفاتيكاني بالملفّ اللبناني.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…