أنطوان مسرّة لـ”أساس”: نحن في معركة الاستقلال الثالث

مدة القراءة 8 د

 في منزله التراثي في الحيّ البيروتيّ العتيق في الأشرفية، يستمرّ أنطوان مسرّة في عمله الدؤوب منذ عقود، وهو “لبننة لبنان”.

عضو المجلس الدستوري السابق والأستاذ الجامعي والمؤلّف يسكن الذاكرة اللبنانية والتجربة اللبنانية. وهذا ليس إقامة في الماضي، بل هو تطلّعٌ إلى أقصى المستقبل، لأنّه لا بناء لمستقبل لبنان من دون العودة إلى ذاكرته لتنقيتها. هذه العمليّة مستمرّة، وتواجه معوّقات كبرى، وهدفها استخلاص العِبَر وعدم تكرار المجرَّب. لكنّ الانهيار غير مجرَّب، ومن هنا يبدأ حديثنا مع الدكتور مسرّة:

ما هي استنتاجاتك ممّا يجري في لبنان الآن، أكان في المجتمع أو الدولة؟

– ما يحصل هو نتيجة غياب الدولة. في سياق الاحتجاج على الأزمة، يتوجّه اللبنانيون إلى حاكم مصرف لبنان والمستوردين والمستشفيات والسوبرماركت، فيما هذه كلّها قضايا جانبية، إذ إنّ المعضلة الرئيسة في لبنان اليوم تتمثّل في دولة رديفة تتمتّع بصفات الدولة. فالدولة وحدها تحتكر القوة المنظّمة، وهي وحدها تحتكر العلاقات الديبلوماسية. أما في لبنان اليوم فهناك ديبلوماسيّتان. ديبلوماسية تستند إلى الدستور اللبناني، الذي ينصّ على أنّ لبنان عربيّ الهويّة والانتماء، وهي غير فاعلة. وديبلوماسية ثانية يقودها جيش تابع لحزب يرتبط بسلاحه وديبلوماسيّته بالجمهورية الإسلامية الإيرانية خلافاً للدستور.

الدستور ليس موضوع سجال. الدستور يُطبَّق، والرئيس هو الوحيد الذي يحلف اليمين على الدستور. ومن يحلف اليمين على الدستور لا يفسّر الدستور ولا يطالب بتفسيره

لبنان وطنٌ محتلٌّ والبقية أمور رديفة. نحن في معركة استقلال ثالث. فبعد استقلال العام 1943، كان الاستقلال الثاني لحظة خروج جيش النظام السوري من لبنان. أمّا اليوم فنحن في ثالث معركة للاستقلال لتطبيق الدستور الذي ينصّ على نهائيّة الكيان اللبناني، وأنّ لبنان عربي الهويّة والانتماء.

ما حصل في اتّفاق القاهرة سنة 1969 بين الدولة اللبنانية ومنظّمة التحرير الفلسطينية، حصل مجدّداً في 6 شباط 2006 عندما وُضِع “تفاهم مار مخايل”، الذي هو اتفاق قاهرة جديد مع جيش حزب مرتبط بسلاحه وديبلوماسيّته بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولذلك لا ينتظم أيّ تدبير دستوري أو اقتصادي أو ماليّ أو مصرفيّ أو إداري إذا كان الوطن محتلّاً.

 

على مَن تقع المسؤوليّة الرئيسة في لبنان الآن؟

– القيّم على الدولة هو أساساً رئاسة الجمهورية بحسب المادة 49 من الدستور التي تنصّ على أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة. وهذا يعني أنّ رئيس الدولة هو قيّمٌ على الدستور، وهو مسؤول عن السيادة وتطبيق القانون وضبط الأوضاع العامّة.

 

وقّعتم مع آخرين على بيان يطالب بمحاكمة رئيس الجمهوريّة لمخالفته الدستور. ما الخطوة التالية؟

– كان هذا بياناً دستوريّاً، لكن تمّ التعامل معه بشكل سطحي من قبل مثقّفين بلا خبرة، ومن قبل بعض السياسيين الذين يتجاهلون الدستور، كأنّه يعبّر عن انقسام بين معارضة وموالاة.

وبالمناسبة لقد كان بيان الرئيس نبيه برّي الأخير عن المسؤولية في تأليف الحكومة، وعن الجهة التي تعطي الثقة للحكومة، بياناً دستوريّاً. فيما كان ردّ بعض السياسيين ووسائل الإعلام عليه ردّاً سياسيّاً. وهذا يدلّ على مدى فقداننا البوصلة والمعايير، التي المعيار الرئيس بينها هو الدستور.

الدستور ليس موضوع سجال. الدستور يُطبَّق، والرئيس هو الوحيد الذي يحلف اليمين على الدستور. ومن يحلف اليمين على الدستور لا يفسّر الدستور ولا يطالب بتفسيره. كما في كلّ المحاكم، عندما يُطلب من أحد الأفرقاء أن يحلف اليمين، فهو يفعل ذلك على شيء فهمه وأدركه. وما أقوله ليس رأياً أو موقفاً، إنّما هو بمقتضى الدستور. فهل نُخضِع مستقبلاً رئيس الجمهورية للجنة فاحصة للتأكّد من معرفته للدستور ومعناه؟ الرئيس فؤاد شهاب لم يشكُ يوماً من الدستور، ولم يطلب تفسيره، وقوله معروف: “ماذا يقول الكتاب”؟.

لم تُدخِل وثيقة الطائف أيّ شيء جديد على الدستور. بالعكس، أكّدت ثوابت التجربة اللبنانية في ما يتعلّق برئيس الدولة


لكن يجري الحديث عن حرب صلاحيّات في الدولة…

– استعمال عبارة صلاحيّات في ما يتعلّق برئاسة الدولة هو فعل معيب ومشين ومخجل. هل سمعت مرّة ربّ عائلة أو مدير مدرسة أو رئيس شركة يسأل ما هي صلاحيّاتي؟ السؤال الذي يطرحونه: “ما هي مسؤوليّتي؟”. كلّ منهم مسؤول عن استمراريّة مؤسّسته. ورئيس الدولة مسؤول عن استمراريّة الدولة. وإذا كان مدير المدرسة عاجزاً عن إدارة شؤونها يتخلّى عن منصبه.

نحن في لبنان كأنّنا في باخرة تغرق ونتوجّه بالاتّهام إلى عامل التنظيفات والطبّاخ، فيما تقع المسؤولية على ربّان السفينة. ملكة بريطانيا ليس لديها أيّ صلاحيّة، لكنّها هي المسؤولة عن مستقبل بريطانيا. معيبٌ، مخجلٌ ومشينٌ أن يسأل رئيس الجمهورية ما هي صلاحياتي. والمطلوب من رئيس الدولة التّصرف كرئيس دولة.

 

يعتقد البعض أنّ اتفاق الطائف نزع صلاحيّات أساسيّة من رئيس الجمهوريّة…

– لم تُدخِل وثيقة الطائف أيّ شيء جديد على الدستور. بالعكس، أكّدت ثوابت التجربة اللبنانية في ما يتعلّق برئيس الدولة.

في العام 1985، كنت مشاركاً في وساطة ألمانية أوروبية فاتيكانية إثر “الاتفاق الثلاثي”، وكان يوجد 14 اتّفاقاً تتعلّق بالمواقع العليا في الدولة تسيء كلّها إلى مبدأ الفصل بين السلطات، وقد تجعل من رئيس الجمهورية رجل بعبدا أو رئيساً فخرياً. وكانت عبقرية واضعي ميثاق الطائف أنّهم في المادة 49 قالوا إنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، أي أنّه فوق كلّ الصلاحيّات، ليس بمعنى الأحجام وصراع النفوذ والمواقع، بل فوق الجميع باسم الدستور. هو يطبّق الدستور، ومن يخلّ بالدستور يرفع الصوت بوجهه. قال لي الأستاذ إدمون رزق: “لو شرحنا ما جاء في المادة 49 من الدستور، كما تقول، لكان بعض الأفرقاء رفضوها لأنّ رئيس الدولة في لبنان هو ملكٌ دستوري”.

 

لبنان إلى أين برأيكم؟

– لبنان في حالة اللادولة، وهو ذاهب إلى مزيد من اللادولة. هناك خطّة استراتيجية خارجية للوصول إلى اللادولة. من المسؤول عن الباخرة؟ القبطان. وفي النهاية كل الأمور جُرِّبت في لبنان، ويجب على الشعب أن يوضح ما يريد.

 

ما رأيكم بالطرح الفيديرالي؟

– الطرح إضاعة للوقت وإلهاء للناس عن القضية الجوهرية، لأنّ أيّ نظام فيديرالي أو لامركزي يحتاج إلى أن توجد دولة مركزية تحتكر القوّة المنظمة والعلاقات الديبلوماسية، وإلا لا يمكن تنظيم فيديرالية.

لا يوجد في المستقبل أيّ معالجة للتنوّع اللبناني إلا من خلال رئيس للجمهورية يحمل “الكتاب”. الرئيس شهاب لم يتذمّر من الدستور أو من الطائفية، وإنّما من العقلية اللبنانية، ومن عقلية مارونية في جزء من جبل لبنان ما زالت تحمل ذهنية لبنان الصغير. هذا يحتاج إلى تغيير عميق في أيديولوجية رئاسة الجمهورية، التي ليست موقعاً ولا نفوذاً ولا حجماً، إنّما هي تتخطّاها لتكون فوق الجميع باسم الدستور، وهذه هي قوّتها الأساسية.

أيّ انتخابات تحت الاحتلال لا يمكن الوثوق بنتائجها في أي بلد في العالم. لا يعني ذلك عدم إجراء الإنتخابات، لكن لا يمكن وضع آمال كبرى على الانتخابات في ظل الاحتلال

هل أنتم مع إجراء الانتخابات النيابيّة وفق القانون الحالي؟

– أيّ انتخابات تحت الاحتلال لا يمكن الوثوق بنتائجها في أي بلد في العالم. لا يعني ذلك عدم إجراء الإنتخابات، لكن لا يمكن وضع آمال كبرى على الانتخابات في ظل الاحتلال.

 

يقول البعض إنّنا ذاهبون إلى نظام سياسي جديد لأنّ هذه هي غاية حزب الله النهائيّة من تمسّكه بسلاحه…

– ذاهبون إلى المجهول. لا يوجد عمليّاً نظامٌ جديدٌ للبنان. أسس التغيير موجودة في الدستور ذاته، وبالتحديد في المادة 95. ونظام لبنان في أسسه الرئيسة لم يتغيّر منذ المماليك. والذين يدعون إلى تعديل الطائف لا يقولون ما الذي يريدون تعديله فيه، إنّما يطلقون هذا الموقف جاعلين منه شعاراً.

 

ماذا عن المطالبة بتحديد مهل…

– هذا هروب ومخادعة. هناك نوعان من المهل. فالدساتير أحياناً تذكر المهل لإقرار الموازنة والانتخابات ودورات انعقاد مجلس النواب. وعندما لا تُذكر مهلة فهذا يعني أنّ الأمر يجب أن يُبَتّ في أسرع وقت.

 

كيف ترى ناحية إيجابية في مسار التطوّرات اللبنانية، لكنّها إيجابية تنطوي على منحى سلبي؟

– بين العام 1975 والعام 1990 كان النزاع إجمالاً إسلامياً مسيحياً. أمّا اليوم فهناك مسلمون سنّة وشيعة ودروز أكثر مارونية سياسياً من موارنة متشيّعين سياسياً وفق تحالف مار مخايل.

إقرأ أيضاً: أنطوان مسرة لـ”أساس” (1/2): “ليس لدينا خيار غير دولة لبنان الكبير”

لهذا السبب ركّزت استراتيجية البعض على خرق كلّ طائفة من الداخل. وهذا بالغ الخطورة لأنّ التضامن الداخلي لكلّ طائفة في قضية سيادة لبنان مرتبط بالعقد الاجتماعي التأسيسي. فالتنوّع السياسي ضمن كل طائفة مهمٌّ جدّاً ويعبّر عن منحى ديموقراطي، لكنّ الأصل أن تكون الطائفة موحّدة في تمسّكها باستقلال الوطن. وهذا كلّه يدلّ على سعيٍ لضرب الكيان اللبناني.

الخيار الإيراني ليس له مستقبل في لبنان. الخيار الوحيد هو لبنان العربي الهوية والانتماء، وذلك لأسباب تاريخية وسياسية – اقتصادية.

مواضيع ذات صلة

شينكر لـ”أساس”: تطبيق 1701… أو تحوُّل لبنان إلى “سوريا 2”

ماذا يقول المساعد السّابق لوزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى ديفيد شينكر عن سير الأحداث في المنطقة؟ هل باتت الحرب في لبنان قريبة من الانتهاء؟…

سفير مصر لـ”أساس”: الخماسيّة عائدة… التّسوية قريبة

يوم الأحد الماضي كان مفصليّاً. فقد طوى تصعيداً كاد يؤدّي إلى حرب كبرى. وأقفل معه مواجهة اعترف طرفاها الحزب وإسرائيل بانتهائها. وعليه، بدأت في المنطقة…

شينكر لـ”أساس”: لا حرب موسّعة.. حادث مجدل شمس غير مقصود

يستبعد ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى السابق نشوب حرب واسعة بين إسرائيل والحزب على خلفيّة حادثة مجدل شمس لسببين: الأوّل أنّها…

فارس سعَيْد: فرنجية رئيساً قبل دخول ترامب البيت الأبيض؟

وقوع لبنان على لحظة سياسية مشابهة لتلك التي أوصلت الرئيس ميشال عون إلى بعبدا تزداد حظوظه السياسية، وسببه المناظرة الرئاسية الأميركية بين دونالد ترامب وجو…