من عقدة فيتنام… إلى عقدة أفغانستان

مدة القراءة 6 د

ما بدأ بخطأ لا يمكن إلّا أن ينتهي بخطأ آخر أكثر فظاعة. لم يكن من خيار آخر لدى إدارة جو بايدن سوى الانسحاب من أفغانستان، وإن في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها في منتهى الفوضى. ستترك نتائج الحرب، التي خاضتها الولايات المتحدة في أفغانستان، وطريقة خروجها منها، انعكاسات على السياسة الأميركية في المستقبل. ستحلّ عقدة أفغانستان مكان عقدة فيتنام التي عانت منها الإدارات المتلاحقة طويلاً منذ عام 1975…

هناك حرب استمرّت عشرين عاماً كلّفت أميركا ما يمكن أن يصل إلى ألف مليار دولار، وثمّة مَن يقول أكثر. فشلت الولايات المتحدة في إقامة نظام قابل للحياة في أفغانستان بعد إزاحتها حكم “طالبان” الذي كان يؤوي أسامة بن لادن وتنظيم “القاعدة” الإرهابي. هذا التنظيم الذي كان وراء “غزوتيْ واشنطن ونيويورك” في الحادي عشر من أيلول 2001. اتّخذ بايدن قراراً بالانسحاب نظراً إلى أنّ إدارته تعرف تماماً أن لا خيار آخر أمام أميركا سوى الخروج عسكريّاً من أفغانستان يوماً ما. لماذا، إذاً، الانتظار ودفع مزيد من الأثمان في حرب يستحيل الانتصار فيها؟

. ما حصل من فشل في أفغانستان بدأ بخطأ الذهاب إلى العراق لأسباب لا تزال مجهولة. مثلما لم تفهم الإدارات الأميركية، من إدارة جورج بوش الابن إلى إدارة جو بايدن، مروراً طبعاً بإدارة باراك أوباما، العراق، لم تفهم أفغانستان أيضاً

في هذا السياق، يبدو قرار الرئيس الأميركي منطقيّاً إلى حدٍّ بعيد. ما ليس منطقيّاً هو الخطأ الذي ارتكبته الإدارة عندما عجزت عن تنظيم الانسحاب العسكري. تبيّن بكل وضوح أنّ أميركا كانت في أفغانستان طوال عشرين عاماً، لكنّها بقيت لا تعرف شيئاً عنها وعن قوّة “طالبان” ومدى انتشارها. لعلّ أهمّ ما كانت تجهله أميركا مدى هشاشة النظام الذي على رأسه أشرف غني خليفة حامد كرزاي. إذ سارع أشرف غني إلى الفرار من كابل، وتبيّن بكلّ بساطة أنّ عشرين عاماً لم تكن كافية لبناء جيش أفغاني يستطيع الصمود لأيّام قليلة أمام “طالبان”. لم تكن عشرون عاماً كافية لمعرفة خبايا أفغانستان وخبايا “طالبان” التي تحاول حالياً تغطية تخلّفها عبر حملة علاقات عامة وجدت مَن ينظّمها لها. عاجلاً أم آجلاً، سيتبيّن أنّ “طالبان” لا يمكن أن تتغيّر نظراً إلى أنّه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأيّ سمة حضاريّة في هذا الكون.

في أساس الخطأ الذي ترافق مع الانسحاب العسكري في أفغانستان، خطأ آخر ارتكبته أميركا في عام 2003 عندما قرّرت إدارة جورج بوش الابن الذهاب إلى العراق قبل الانتهاء من حرب أفغانستان، والانتهاء من “طالبان” والتنظيمات الإرهابيّة الأخرى المنتشرة في أفغانستان بحماية “طالبان”. في مقدّم هذه التنظيمات كان تنظيم “القاعدة” الذي لم يستطع إيجاد موقع له في مناطق أفغانيّة مختلفة فحسب، بل استطاع أيضاً إقامة علاقات مع إيران…

لم يكن طبيعياً دخول أميركا حرباً أخرى في وقت لم تنتهِ من حرب أفغانستان، ولم تذهب إلى لبّ المشكلة، أي العلاقة بين الاستخبارات العسكريّة الباكستانيّة من جهة، و”طالبان” من جهة أخرى. بدل التركيز على باكستان التي لعبت دوراً مهمّاً في ولادة “طالبان”، والذهاب إلى أساس المشكلة… ذهبت أميركا إلى العراق من دون أيّ دليل على وجود علاقة بين نظام صدام حسين و”القاعدة”. لا يعني ذلك أنّ الدفاع عن النظام العراقي السابق ممكن بمقدار ما يعني أنّ التخلّص منه جرى بالطريقة الخطأ والتوقيت الخطأ. هذا ما دفعت أميركا ثمنه في أفغانستان، ولا تزال تدفعه إلى اليوم.

لم يتّضح بعد، وقد لا يتّضح في يوم من الأيّام، مَن أخذ أميركا إلى حرب أخرى في وقت لم تكن قد انتهت من حربها على الإرهاب في أفغانستان. كلّ ما تسرّب عن الأمر أنّ بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع في عهد بوش الابن سارع إلى المناداة بالانتقام من “القاعدة” في العراق. بادر إلى ذلك بعد ساعات من “غزوتيْ نيويورك وواشنطن” في اجتماع لكبار المسؤولين الأميركيين في منتجع كامب ديفيد بعيداً عن العاصمة. تصدّى وزير الخارجية كولن باول، وقتذاك، لوولفوفيتز مؤكّداً أن ليس ما يثبت وجود علاقة بين نظام صدّام حسين و”القاعدة”. لم يكن لدى نائب وزير الدفاع من ردّ. لكن وولفوفيتز قال بعد ذلك في سياق مقال طويل نشرته في حينه مجلة “فانيتي فير”: “زرعت البذور”، أي أنّه زرع بذور فكرة الذهاب إلى العراق الذي عانى بدوره من نتائج حرب أميركيّة غير مدروسة أدّت إلى فشل ذريع بتكاليف مادية وإنسانيّة باهظة، إضافة إلى خلل في التوازن الإقليمي صبّ في مصلحة إيران، إنْ في منطقة الخليج أو في الشرق الأوسط.

لا يمكن للخطأ سوى أن يجرّ إلى خطأ آخر. ما حصل من فشل في أفغانستان بدأ بخطأ الذهاب إلى العراق لأسباب لا تزال مجهولة. مثلما لم تفهم الإدارات الأميركية، من إدارة جورج بوش الابن إلى إدارة جو بايدن، مروراً طبعاً بإدارة باراك أوباما، العراق، لم تفهم أفغانستان أيضاً. لم تدرك كلّ هذه الإدارات معنى تقديم العراق على صحن من فضّة إلى إيران. لم تدرك أيضاً ما هي حركة “طالبان”، وأنّ “طالبان” لا يمكن أن تتغيّر مهما وضعت من المساحيق على وجهها، وبغضّ النظر عمَّن يقدّم لها النصائح كي تبدو وكأنّها تغيّرت. يظلّ الموقف من المرأة وإجبارها على أن تكون مواطناً من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة المقياس الأهمّ في الحكم على أيّ نظام أو تنظيم سياسي.

إقرأ أيضاً: حكاية الأيام الأخيرة قبل سقوط كابول

ستمضي سنوات قبل أن تخرج الولايات المتحدة من عقدة أفغانستان… هذا إذا خرجت، مع فارق كبير بين فيتنام وأفغانستان. في فيتنام شعبٌ أعاد بناء بلده بعد الانسحاب الأميركي الفوضوي من سايغون في نيسان 1975. ثمّ أقامت فيتنام علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة. ففي السنوات الثلاثين الأخيرة، زار رؤساء أميركيون هانوي، وآخرهم كان دونالد ترامب.

تطلّع الفيتناميون إلى المستقبل. في المقابل، يبدو مستقبل أفغانستان على كفّ عفريت بوجود حركة تتطلّع فقط إلى الماضي وإلى تكريس التخلّف. لكنّ القاسم المشترك بين فيتنام وأفغانستان يبقى العقدة التي وُلدت من الانسحابين الأميركيّيْن. إنّها عقدة أميركية بامتياز ستجعل أيّ حليف للولايات المتحدة يشعر مجدّداً بأنّ الرهان على الإدارة الموجودة في واشنطن رهان غير مضمون، بل رهان خاسر سلفاً.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…