لماذا يبذّر المفلسون (2/2): نظرية أحمر الشفاه.. و11 أيلول

مدة القراءة 5 د

لماذا يتوزع عدد كبير من اللبنانيين على المطاعم والمقاهي والمسابح؟ ولماذ يبدو اللبنانيون في لحظة إفراط بالاستهلاك، بدل أن يكونوا في لحظة إفلاس وإمساك عن الاستهلاك.

في رحلة البحث عن حالات مشابهة حول العالم، وصلنا إلى أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً إلى نظرية سُمِّيت في حينه “تأثير أحمر الشفاه” (Lipstick effect)، التي تحدّث عنها ليونار لودر (Leonard Lauder) رئيس مجلس إدارة “Estée Lauder” لمستحضرات التجميل.

لاحظ “لودر” أنّ مبيعات أحمر الشفاه في شركته ارتفعت نحو 11% خلال أزمة 11 أيلول، فاعتبر أنّ ثمة علاقة “تناسبٍ عكسيٍّ” بين الوضع الاقتصادي وبين مبيعات أحمر الشفاه. لاحقاً أظهرت دراسات متقدّمة أنّ المستهلكين يميلون، في مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة، إلى التوفير في الفواتير الكبيرة مثل السيارات، والبيوت، والعطلات الباهظة، لكنّهم في المقابل يزيدون إنفاقهم على الأشياء الفارهة الصغيرة، وتحديداً على الأشياء التي تدعو إلى التفاؤل.

تكشف المسؤولة الإعلامية في عيادة الدكتور حسن ناصر الدين للجراحة الترميمية والتجميل، أنّ حجم العمل في المركز تضاعف بنحو 400 في المئة خلال الأزمة، فيما كنّا نتوقّع العكس تماماً

تطوّرت النظرية مع الوقت، وسُجّلت عدّة مؤشّرات تتعلّق بتأثيرات مشابهة نتجت عنها زيادة في مبيع سلع مثل طلاء الأظافر وصبغة الشعر والأقمشة. وربط “علم النفس التطوّري” ذلك بما يسمّى “غرائز البقاء”، وهي نمط سلوكيّ مكتسب من أسلافنا القدماء.

فأقلام حمرة الشفاه أو مستحضرات التجميل والزينة غالباً ما تنجح في تحسين مظهر الإنسان، وتزيد من فرصه في إيجاد شريك ملائم خلال الأزمات. وهذه عادات مزروعة في لاوعينا، ويبدو أنّنا لم نتخلّ عنها بعد منذ آلاف السنين. ولهذا قد تكون هذه النظرية خلف نمو الأعمال في المطاعم وأماكن الترفيه خلال الأزمات الاقتصادية. إذ يلجأ المستهلكون، الذين يعانون ضائقة مالية، إلى “طرق علاج” مشابهة تُنسيهم مشاكلهم الماليّة. وتبدأ هذه الظاهرة بالعمل حين تدعوهم ذاكرتهم الجينيّة بشكل “لاواعٍ” إلى البحث عن شريك… وهذا ما يدفعهم إلى شراء الملابس أكثر والتبرّج أكثر وتناول الغداء والعشاء في المطاعم الفخمة والمقاهي الراقية، أو ربّما استئجار شاليه على البحر أو المبيت في فندق بدل المنزل.

تذهب أعمق ورقةٌ بحثيةٌ أخرى، نشرتها مجلة Scientific American قبل 8 سنوات، أكّدت علاقة الفقراء، تحديداً، بهذه الظاهرة. إذ كشفت أنّ الأشخاص الذين نشأوا في بيئة متواضعة اقتصادياً، يتّخذون خيارات أكثر خطورة أو أقلّ تحفّظاً خلال الأزمات الاقتصادية، بغضّ النظر عن وضعهم الاقتصادي الحالي. وترى الدراسة أنّ الذين “نشأوا في بيئة فقيرة، وكانوا ذوي دخل متواضع، هم أكثر عرضةً لاتّخاذ قرارات أشدّ اندفاعاً ومغامرة وأشدّ مخاطر، من أولئك الذين نشأوا في بيئة أكثر رفاهية، وذلك بسبب عودة الفرد في تفكيره اللاواعي إلى طفولته خلال الأزمات الاقتصادية والركود”.

تتحدّث الدراسة أيضاً عن “استراتيجية تطوّرية” مستوحاة من نظرية في علم الأحياء التطوّري، اسمها “تاريخ الحياة”، تعتبر أنّ الكائنات، ومنها البشر، تقوم غالباً بـ”مقايضات لاواعية” حينما يتعلّق الأمر بالموارد (الطعام… وتطوّر لاحقاً وبات المال ضمنه)، وذلك من أجل الحفاظ على “اللياقة التكاثرية”، فتقوم بعض الكائنات بتطوير استراتيجيّتين: الأولى سريعة تتميّز بالسعي إلى تحقيق مكاسب “قصيرة الأجل” من دون أيّ اعتبار للعواقب على المدى الطويل، فيما الثانية بطيئة تمتاز بتخطيط طويل الأجل، لكن بمكاسب متأخّرة.

ولهذا يطوّر الأشخاص ذوو الخلفيّات الفقيرة اقتصاديّاً استراتيجيّات “أسرع” من أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات أكثر ثراءً من الناحية الاقتصادية. ونتيجة لذلك، يبلغون سنّ النضج الجنسي مبكراً، وتكون علاقاتهم أكثر عرضيّة واندفاعاتهم أشدّ شجاعة.

 نشرت مجلة Scientific American ورقةٌ بحثيةٌ  قبل 8 سنوات، أكّدت علاقة الفقراء، بهذه الظاهرة. إذ كشفت أنّ الأشخاص الذين نشأوا في بيئة متواضعة اقتصادياً، يتّخذون خيارات أكثر خطورة أو أقلّ تحفّظاً خلال الأزمات الاقتصادية، بغضّ النظر عن وضعهم الاقتصادي الحالي

للتأكّد من هذا الكلام، كان لا بدّ من مؤشّر أقوى من الكلام النظري، ولهذا قصدنا مركز تجميل لأنّه قد يكون أقوى مؤشّر إلى ما تتحدّث عنه هذه الدراسات، خصوصاً أنّ التجميل هو أسمى مثال للإغراء أو “البحث عن شريك”.

تكشف المسؤولة الإعلامية في عيادة الدكتور حسن ناصر الدين للجراحة الترميمية والتجميل، أنّ “حجم العمل في المركز تضاعف بنحو 400 في المئة خلال الأزمة، فيما كنّا نتوقّع العكس تماماً”. وتعزو السبب إلى “التوتّر (Stress) الذي يمرّ به الناس، خصوصاً الجنس اللطيف الذي يرى في التجميل ملاذاً لتنفيس الاحتقان. وهذا لا يتوقّف على التجميل والترميم فحسب، وإنّما يشمل التبرّج والتزيين وتصفيف الشعر وخلافه”.

وتخبرنا المسؤولة أنّ “بعض النسوة خلال الأزمة كنّ يعرضن مجوهراتهنّ للبيع من أجل إجراء عمليات شفط ونفخ وتكبير”. وقد دفعتنا هذه المعلومة إلى السؤال عن العملة المتداولة في الدفع لمعرفة إن كان الدولار “الفريش” سبباً اقتصادياً محدِّداً أو عاملاً مساعداً في نموّ الأعمال في مجال التجميل، فكانت المفاجأة أنّ الدفع يتمّ بالدولار الفريش والليرة اللبنانية على سعر صرف تشجيعي هو 5 آلاف ليرة للعمليات في العيادة، و6 آلاف ليرة للعمليات في المستشفى، وشيكات بـ”اللولار”. وتضيف أنّ “الزبونات اللواتي اختزنّ أموالهنّ بالليرة اللبنانية تتهافتن اليوم على عمليات التجميل للتخلّص من هذه الليرات قبل أن تقلّ قيمتها أكثر، ويفضّلن أن يكون استثمارها في أنفسهنّ”.

إقرأ أيضاً: لماذا نبذّر أموالنا… حين نكون مفلسين (1/2)

قد تكون هذه “حججاً” نحن من يختلقها للإجابة عن أسئلة لا نملك لها تفسيراً.

الآن بتنا نملك قليلاً من الإجابات عن تلك الظاهرة، وبتنا نعرف لماذا الفقراء هم أكثر ميلاً إلى البذخ وصرف الأموال خلال الأزمات.

فيا فقراء لبنان الجدد… انتبهوا.

 

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…