مجزرة مصرفية جديدة: 61 % من اللبنانيين.. بلا خدمات

مدة القراءة 5 د

في بداية العام الحالي، بدأت المصارف تنفيذ مجموعة من الإجراءات المصرفيّة الجديدة، التي حاولت قدر الإمكان الحدّ من عدد الحسابات المفتوحة لديها، وتصفية الجزء الأكبر من هذه الحسابات. هذه الإجراءات، التي عدّدها “أساس” في ذلك الوقت وشرح خلفيّاتها، حاولت تقليص عدد العملاء القادرين على الاستفادة من سقوف السحب بالليرة اللبنانيّة، لتقليص الضغط على سيولة المصارف، بالإضافة إلى التخلّص من أكبر قدر ممكن من الودائع.

اليوم، بحلول منتصف السنة، بدأت نتائج هذا التوجّه المصرفي تظهر بالأرقام الملموسة، على شكل مجزرة غير مسبوقة في عدد الحسابات وبطاقات الدفع المصرفيّة القائمة. وهي ظاهرة لم تشهدها البلاد، وبهذا الحجم، منذ حصول الانهيار المصرفي. لذلك بدأت هذه الظاهرة تؤثّر على مستوى الشمول المالي في لبنان، أي على نطاق استفادة المقيمين فيه من الخدمات المصرفيّة، وقدرتهم على الحصول عليها، وهي مسألة لطالما استهدف مصرف لبنان تطويرها والتركيز عليها قبل حصول الأزمة.

لم يقتصر تقليص نطاق الخدمات الماليّة وحصرها بالقلّة على إقفال الحسابات وإلغاء بطاقات الدفع الممنوحة، فعدد نقاط البيع التجاريّة، التي تستقبل البطاقات المصرفيّة، انخفض بأكثر من 5.685 نقطة منذ بداية الأزمة إلى شهر نيسان الماضي

بحسب أرقام المصرف المركزي، لم يعد اليوم سوى 2.7 مليون بطاقة دفع مصرفيّة في لبنان، في مقابل أكثر من 6.85 ملايين مقيم، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، علماً أنّ الكثير من عملاء المصارف يحملون عدّة بطاقات دفع لغايات متنوّعة (بطاقات دين، بطاقات مربوطة على الحسابات الجارية بعدّة عملات، بطاقات للدولار الطازج… إلخ). وبذلك يصبح من الأكيد أنّ 61% من المقيمين في لبنان، على الأقلّ، باتوا خارج نطاق المستفيدين من الخدمات المصرفيّة. وهي نسبة مرتفعة جدّاً قياساً إلى معدّلات الدول المتوسّطة الدخل، فيما يعبّر هذا الرقم عن انحسار استخدام اللبنانيين لخدمات المصارف إلى حدّ بعيد.

تتّصل هذه النسب، بشكل وثيق، بتوجّهات المصارف الأخيرة. فخلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، أي بعد اتّخاذ المصارف إجراءاتها للحدّ من عدد الحسابات القائمة، تقلّص عدد بطاقات الدفع المصرفيّة بأكثر من 129 ألف بطاقة، أي بمعدّل انخفاض يتجاوز 32.25 ألف بطاقة شهريّاً. في المقابل، لم يكن معدّل الانخفاض الشهري في عدد البطاقات المصرفيّة يتجاوز نصف هذه الوتيرة خلال العام الماضي، على الرغم من أنّ القطاع كان يمرّ بأزمة الثقة القاسية نفسها مع عملائه خلال تلك الفترة، وهو ما يؤكّد أنّ المصارف دخلت في مسار مختلف تماماً في تعاملها مع عملائها منذ بداية هذه السنة، إثر اتّخاذ الإجراءات المستجدّة. ولعلّ تسارع وتيرة إلغاء البطاقات وإقفال الحسابات اللذين تظهرهما الأرقام، هو ما يفسّر نسبة المقيمين المرتفعة التي باتت خارج نطاق الخدمات المصرفيّة حالياً.

بحسب أرقام المصرف المركزي، لم يعد اليوم سوى 2.7 مليون بطاقة دفع مصرفيّة في لبنان، في مقابل أكثر من 6.85 ملايين مقيم، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، علماً أنّ الكثير من عملاء المصارف يحملون عدّة بطاقات دفع لغايات متنوّعة

تعني هذه الأرقام، ببساطة، أنّ المصارف تخلّصت خلال أربعة أشهر فقط من العام الحالي من نحو 4.57% من حَمَلة بطاقات الدفع المصرفيّة، بعدما كانت قد تخلّصت من نحو 6.7% من حَمَلة هذه البطاقات خلال العام الماضي. وتظهر الأرقام أيضاً أنّ إجمالي الانخفاض في حجم البطاقات المصرفيّة بلغ نحو 333 ألف بطاقة منذ بداية الأزمة حتّى اليوم، وهو ما يمثّل موجة نزوح ضخمة وغير مسبوقة إلى خارج النظام المصرفي.

لم يقتصر تقليص نطاق الخدمات الماليّة وحصرها بالقلّة على إقفال الحسابات وإلغاء بطاقات الدفع الممنوحة، فعدد نقاط البيع التجاريّة، التي تستقبل البطاقات المصرفيّة، انخفض بأكثر من 5.685 نقطة منذ بداية الأزمة إلى شهر نيسان الماضي، دالّاً مجدّداً على تضييق نطاق العمل المصرفي إلى أقصى حدود. ولم تستثنِ هذه التطوّرات عدد ماكينات السحب النقدي المتوافرة في الأسواق، والتي انخفض عددها بنحو 176 منذ بداية الأزمة، في انعكاس مباشر لظاهرة تقليص عدد الفروع المصرفيّة العاملة على امتداد الأراضي اللبنانيّة. وبذلك لم ينخفض عملاء المصارف المستفيدين من خدماتها وبطاقاتها فقط، بل قلّلت المصارف أيضاً قدرة هؤلاء على الاستفادة من خدماتها.

 أخيراً، كان اللافت في إحصاءات مصرف لبنان هو انخفاض عدد البطاقات المسبقة الدفع بأكثر من 18.6 ألف بطاقة، في حين أنّ هذه البطاقات شهدت زيادة كبيرة في عددها مع اشتداد الأزمة خلال العام الماضي، نتيجة اعتماد عملاء المصارف عليها لشحنها بالدولارات الطازجة واستعمالها عبر الإنترنت. وقد يكون هذا الانخفاض في عددها ناتجاً عن تقاطع عدّة عوامل، كانخفاض شهيّة بعض المصارف لتسويق هذه البطاقات هذا العام، بالنظر إلى استنزافها لجزء من سيولة المصارف لدى المصارف المراسلة، حتّى لو دفع العملاء مقابل هذه الخدمات بالدولار النقدي محلّياً، والعمولات التي بدأت المصارف تفرضها على إيداع الدولار النقدي.

إقرأ أيضاً: المصارف تطرد المودعين: التهرّب من “تكوين السيولة”!

كلّ هذه الأرقام تدلّ على أنّ المصارف تتّجه إلى وضع تقتصر فيه خدماتها على قلّة من المقيمين، الذين ما زالوا يمتلكون حسابات مصرفيّة لم تتمّ تصفيتها بعد، أو أعمالاً تجاريّة لا يمكن إنجازها من دون حسابات مصرفيّة. وتتّجه للبقاء على وضعها الراهن، كمؤسسات يقتصر عملها على التصفية الذاتية، أي تلقّي دفعات المقترضين وتوفير السحوبات للمودعين، من دون أن تتمكّن من تسويق الخدمات المصرفيّة التقليديّة كبطاقات الدفع والاعتمادات والتسليفات وخدمات التجزئة والتوطين وغيرها. وهكذا ستكون النتيجة اقتصاداً بدائيّاً لا يملك قاعدة مصرفيّة متطوّرة قادرة على توفير أبسط الخدمات الماليّة المطلوبة، واقتصاداً غير عادل يستثني شريحة واسعة من المقيمين من جميع أشكال الخدمات الماليّة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…