ما عادت مكابرات حسن نصرالله تُخفي عجزه أمام هول الأزمة التي تضرب لبنان واللبنانيّين جميعاً. القسمة بين “أشرف الناس” من أهل “الانتصار” وبقيّة اللبنانيّين المهزومين والمتآمرين، قسمة لا تقدر على الفرز بين مَن وحّدتهم الهزيمة أمام الفقر والتردّي والعوز.
كان بوسع نصرالله أن يدّعي فوائض قوّة لديه ولدى حزبه، حين كان هناك دولة ونظام في لبنان يحملان عن كتفيْه جلّ المسؤوليّات الحقيقيّة، ويتركان له المنبر والصراخ. دولة تهتمّ، ولو بالكثير من الفشل والتعثّر، بالنفايات والكهرباء وخدمة الدين وتنظيم التجارة الخارجيّة وصيانة العملة وإدارة العلاقات الخارجيّة. دولة على ضعفها وعلّاتها، كانت موجودة، ووجودها يفرد له مساحةً واسعةً لادّعاءات القوّة والعظمة.. هذه الحقيقة التي لا ينبغي طمسها. وبدا عجزه وعجز حزبه بيِّنَاً حين انهارت الدولة وتلاشى النظام.
نصرالله ليس غبيّاً، وإن كان محدود المعارف، ولا سيّما في الاقتصاد وإدارة الدولة. وهو يعرف أنّه يطرح حلّاً لمشكلة ليست قائمة. لكنّه الاستعراض، الذي يجيده، لنقل المسؤولية بانتظار الأزمة المقبلة والخطاب المقبل.
أربعة امتحانات في المكابرة باء فيها نصرالله بالفشل المريع.
حين بدأت تلوح معالم الأزمة الماليّة والنقديّة في لبنان، تفاخر بأنّه وإن توقّفت الدولة عن دفع الرواتب فإنّ حزبه لن يتوقّف، وسيظلّ قادراً على دفع مستحقّات محازبيه. فاته يومها أنّ بين جمهور حزبه الأوسع موظّفين في هذه الدولة، التي كانت تحثّ الخطى نحو الإفلاس، وتجّاراً، وأصحابَ مصالح ومؤسّسات من مختلف الأحجام، وموظّفين في هذه المؤسسات الخاصة، وأنّ هؤلاء أكبر بكثير، بحاجاتهم ومتطلّباتهم، من قدرة ميليشيا على الوفاء بها أيّاً يكن ثراؤها.
لكنّهما التشاوف والغطرسة اللذان يميّزان نصرالله، والملمحان الأدقّ في شخصيّته، أقلّه منذ عام 2006. بعدها بأشهر قليلة، خرج الرجل بنقيض خطابه الأوّل، داعياً مَن يقبضون بالدولار أن يتشاركوا ما تيسّر من دولاراتهم مع الأرحام وذوي الحاجة.
إنّه الاقتصاد.. لا يتوقّف كثيراً أمام خطب المنابر.
بعدها، وحين أوغلت جائحة كورونا، أو بدت أنّها تستعدّ، خرج علينا حزب الله بما سمّاه خطّة طوارئ للمواجهة، مستعرضاً أرتالاً من سيّارات الإسعاف، والعيادات الميدانيّة، وتفاخر بأعداد المتطوّعين والمتفرّغين المستعدّين لمواكبة الجائحة. مجدّداً نحن أمام الإدارة بالاستعراض. ساعات طويلة من العرض التلفزيونيّ، والمقابلات والإشادات، والمديح بجهوزيّة حزب الله، وكفايته التنظيميّة، وقدراته التخطيطيّة، لم تحُلْ جميعها دون انتشار الوباء بالشكل الذي انتشر فيه في طول لبنان وعرضه، وفي جنوبه وبقاعه وضاحيته، كما في غيرها من المناطق.
ومع الشروع في فقدان الموادّ الغذائيّة من المتاجر والدكاكين، شهر حزب الله ما يجيده مجدّداً: “الإدارة بالاستعراض”.
آخر امتحانات نصرالله كان امتحان البنزين. عنتريّات فارغة على دولة ضعيفة ومنهكة، وكأنّ مشكلته مع الدولة. ولعب استعراضيّ على “الليرة اللبنانيّة” التي يقول نصرالله إنّه سيشتري بها البنزين
كانت “السوشال ميديا” تضجّ بفيديوهات حروب الزيت والرز والسكر بين المتبضّعين، وجزء كبير منها كانت ساحته مناطق داخل بيئة حزب الله، حين أعلن الحزب بطاقات تموينيّة تشبه البطاقات الائتمانيّة للمصارف. تذاكٍ في اللعب على الرموز، ودغدغة للمشاعر من دون نتائج حقيقيّة على الأرض، وفي ظلّ عدم القدرة على تحويل الاستعراض إلى حلّ مستدام.
ماذا يفعل حَمَلة بطاقات سَجّاد بمتطلّبات العيش الأخرى الأبعد من الزيت والرز. من يغطّي أدويتهم، ولحومهم، ووقودهم ومحروقاتهم، أقساط مدارس أولادهم، فواتير مستشفياتهم، فواتير الخدمات العامّة وملحقاتها…؟؟ لا يهمّ. فالاستعراض ليس مصمّماً ليجيب عن هذه الأسئلة، بل أن يخفيها وراء ضجيج القدرة المزيّفة والعنفوان الأجوف.
غداة انتهاء حرب تموز 2006، وظّف الحزب ماكينة الاستعراض حين نشر فيديوهات لتوزيع “الأموال الطاهرة” على أهل الجنوب
المظلومين. بيد أنّ ما يعرفه الجميع، وأهل الجنوب في طليعتهم، أنّ ما خفّف من نتائج حماقات هذه الحرب على الأبرياء كان التمويل الخليجيّ الكبير من السعوديّة والإمارات والكويت وقطر..
آخر امتحانات نصرالله كان امتحان البنزين. عنتريّات فارغة على دولة ضعيفة ومنهكة، وكأنّ مشكلته مع الدولة. ولعب استعراضيّ على “الليرة اللبنانيّة” التي يقول نصرالله إنّه سيشتري بها البنزين. لم يقُلْ لنا على أيّ سعر صرف سيشتري البنزين من إيران، التي تعاني بدورها أزمة محروقات خانقة، نتيجة الغلاء وانهيار العملة والأعمال الأمنيّة الإسرائيليّة، التي لم تتوقّف عن تدمير المصافي، وآخِرتها قبل أيّام جنوب العاصمة طهران. ما لم يقُلْه نصرالله أنّ إيران ستبيعنا على سعر صرف السوق للدولار مقابل الليرة اللبنانية.. إذا توافرت الليرات لدعم البنزين فلا ضرورة للشراء من إيران، التي يحاول نصرالله أن يجعلها بوّابة الحلّ، وهي مركز الزلزال الذي ضرب لبنان.. ولتوفير ليرات، على مصرف لبنان أن يطبع المزيد منها، وأن يغامر تالياً بإفقاد العملة المزيد من قيمتها..
مشكلة البنزين ليست في أيّ مصدر نشتري منه، كما حاول نصرالله أن يوحي، بل في عدم وجود أموال ندعم بها البنزين، حتى بالليرة اللبنانية..
إقرأ أيضاً: بين الانتصار على لبنان والانتصار على إسرائيل
نصرالله ليس غبيّاً، وإن كان محدود المعارف، ولا سيّما في الاقتصاد وإدارة الدولة. وهو يعرف أنّه يطرح حلّاً لمشكلة ليست قائمة. لكنّه الاستعراض، الذي يجيده، لنقل المسؤولية بانتظار الأزمة المقبلة والخطاب المقبل..
هو يعلم أنّ رواتب حزب الله لا تعالج تبدُّد ثروات اللبنانيّين، ولا سيارات إسعافه تواجه كورونا، ولا بطاقات سَجَّاده تحلّ مشكلة الانهيار الاقتصادي، ولا بنزين إيرانه يعالج أزمة تحوّل البلد إلى دولة مفلسة… هو يعلم.. لكنّه ككلّ مرّة ينتظر خراب البصرة ليخرج علينا ويقول.. لو كنتُ أعلم..