الشيخ جراح: شهادة الجدة وصدمة الحفيدة

مدة القراءة 5 د

عمري سبعون عاماً، من سكان حي الشيخ جرّاح. عائلتي مهددة بالإخلاء القسري في الثاني من شهر آب القادم. الحي وأهله يتعرضون لشتى أنواع العنف والعدوان من قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونحن الآن نعاني جرّاء تضييق رهيب على أهالي الحي وزواره المتضامنين معنا. على مداخل الحي الأربعة هناك متاريس حديدية ومكعبات أسمنتية وجنود يدققون في هويات السكان والزوار العرب والأجانب، ولا يسمحوا لأحد بالدخول إلى الحي ما عدا سكانه. أمّا المستوطنون فلهم حرية الدخول والخروج من وإلى الحي من دون فحص الهويات أو حتى مجرد السؤال عن سبب تواجدهم وقدومهم إلى الحي. 

بعد انتهاء شهر رمضان الفضيل ومجيء العيد لم يستطع أهالينا الدخول إلى الحي لمعايدتنا والاحتفال معنا كالمعتاد. اضطررت إلى الذهاب إلى بيوت إخوتي وزيارتهم وتهنئتهم. هذا كان محزناً ومؤلماً للغاية، لأننا اضطررنا إلى تغيير نمط الاحتفاء بالعيد وما اعتدناه. كل ذلك بسبب منعهم أهالينا من زيارتنا مع أنهم غير مسلحين وأناس لا يشكلون أي خطر على الاحتلال وجنوده، بحسب اعتباراتهم.

إن كل ما يحدث في الحي من انتهاكات وعنف ضد الأهالي، هو بالنسبة إلى الاحتلال شرعي وقانوني، بينما هم الطرف المتطرف، والجبان، والعاجز عن مواجهتنا من دون سلاحه لأنه على دراية تامة أنه إذا ما حدث هذا يوماً ما ستكون الهزيمة حليفتهم

بعد انتهاء العيد وعودة المدارس خاف الأطفال من الذهاب إلى المدرسة والإياب، وبحمد الله، ونظراً إلى تفهّم المدرسة، قام المدرسون بإعطائهم الدروس أول أسبوع بطريقة التعلم عن بُعد كي لا يتعرضوا للخطر. بعد انتهاء هذا الأسبوع عاد الدوام المدرسي، وهنا أصبح ذهاب الأطفال وإيابهم مشقة وعبء نفسي عليهم وعلى أهاليهم. فجنود الاحتلال يمنعون كل مَن يحاول الدخول إلى الحي من العرب ومسانديهم.

في أحد الأيام كانت حفيدتي عائدة من المدرسة وهي من سكان الحي أيضاً، وكانت نسيت كوشانها (شهادة الميلاد) في البيت، طلب منها الجندي الكوشان فلم تجده، وعلى الرغم من أنه يعرف أنها من سكان الحي، وقد سألها وحقق معها وتأكد من أنها من ساكني الحي، إلاّ إنه أبى أن يسمح لها بالدخول. حاولت حفيدتي الاتصال بأمها لتحضر وتأتي بكوشانها كي يتفحصوه ويسمحوا لها بالدخول، لكن أمها كانت مشغولة مع طفلتها الصغيرة ولم تسمع رنين الهاتف. وقفت حفيدتي أمام الحاجز عاجزة وخائفة ومحتارة لا تدري ماذا تفعل أو إلى أين تذهب، وكان الجو حاراً جداً.  وصودف أنني كنت وجدّها متوجهين إلى الحي، وبصراحة للوهلة الأولى لم نلاحظ أو ننتبه إلى أنها حفيدتنا؛ فدقق الجندي في هوياتنا وأدخلنا إلى الحي، وإذ بي أنتبه إلى أن هذه الطالبة التي تنتظر إدخالها إلى الحي هي حفيدتي إبنة ابني. فركضت كالمجنونة إلى الحاجز وبدأت بالصراخ محاوِلةً إدخالها إلّا إن الجندي دفعها بعنف إلى الخلف وأخرجها خارج الحاجز. كان ذلك على الرغم من صراخي وقولي إنها حفيدتي. وبعد ثوانٍ قليلة أتى زوجي وصرخ قائلاً إنها إبنة ابنه وتقطن هنا ويجب عليهم إدخالها، ولا أعلم كيف استمعوا إليه وسمحوا لها بالدخول.

في اللحظة التي دخلت حفيدتي إلى الحي انفجرت بالبكاء وانهمرت دموعها، وعانقتني بقوة، فشعرت بمدى رعبها وخوفها وصدمتها من الموقف الذي حدث. أثّر هذا الحادث على حفيدتي بطريقة سلبية طبعاً، فهي الآن تخاف من الذهاب إلى المدرسة بمفردها، أو أن تعود من المدرسة وحدها، وتطلب من أمها مرافقتها من وإلى المدرسة على الرغم من قرب المسافة. فالمدرسة تبعد فقط عدة أمتار عن البيت، لكن ما حدث حدّ أفقد أطفالنا الشعور بالأمن والأمان في أثناء ذهابهم وإيابهم من وإلى مدارسهم. 

بعد أن بدأنا بالمشي والنزول إلى الحي، رأينا الجندي نفسه يُدخل مستوطِنة ترتدي ثوباً أسود يغطيها من رأسها حتى قدميها، ولا تستطيع أن ترى شيئاً منها، ولا حتى عينيها، من دون سؤالها عن سبب وجودها أو التدقيق في بطاقة هويتها أو تعطيل دخولها. هذا هو الاحتلال وعنصريته التي يمارسها ضدنا وضد كل مَن يساندنا ويناصرنا. حتى إنهم منعوا الصحافيين والمصورين من الدخول. أصبحنا نشعر بأننا نقطن في سجن مغلق من كل الجهات ولا نستطيع حتى الدخول إلى بيوتنا من دون إذن. هذا غير منطقي ولا إنساني ومرفوض. لذلك قامت لجنة الحي وبمساعدة مؤسسة عدالة بتقديم شكوى ورفع قضية ضد هذه الحواجز، لكن الرد كان بأنها وُضعت للحماية من الأعمال الإرهابية كعمليات الدهس، وكذلك للحد من الاشتباكات بين المستوطنين وأهالي الحي، وكذلك الادعاء أن هذا من “حق” الاحتلال للحفاظ على سلامته وسلامة مستوطنيه!! 

إقرأ أيضاً: مكتبة منصور من غزّة إلى الشيخ جرّاح: القراءة طوق نجاة

وأخيراً أود أن أقول إن كل ما يحدث في الحي من انتهاكات وعنف ضد الأهالي، هو بالنسبة إلى الاحتلال شرعي وقانوني، بينما هم الطرف المتطرف، والجبان، والعاجز عن مواجهتنا من دون سلاحه لأنه على دراية تامة أنه إذا ما حدث هذا يوماً ما ستكون الهزيمة حليفتهم. وإن شاء الله سيكون نصرنا قريباً، ولن نرحل أو نتزحزح من بيوتنا وأراضينا، ولن نترك أملاكنا للظالم الغاشم الذي ليس لديه أي حق. 

 

* من سكان حي الشيخ جرّاح المهددين بالطرد والتطهير العرقي.

*نقلاً عن مؤسسات الدراسات الفلسطينية

مواضيع ذات صلة

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…

فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

أعلن “اللقاءُ الديمقراطي” من دارة كليمنصو تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزف عون لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الإعلان اختراق كبير حقّقه جنبلاط للبدء بفتح الطريق أمام…