أقفلت بورصة الأزمة الحكومية، بعد كلمة الأمين العام لحزب الله الثلاثاء، على استعصاءات جديدة. لكنّ السيّد حسن نصر الله تعامل مع هذه الاستعصاءات بوصفها أمراً واقعاً لا يجدر به أن يمنع حزبه من الانتقال إلى مرحلة سياسيّة جديدة، هي مرحلة الانتخابات النيابية في أيّار 2022.
لم يقُل نصر الله إنّه لا حكومة في الأفق، لكنّه أسقط في الوقت نفسه أيّ مهلة لتشكيلها على الرغم من أنّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الآخذة في التداعي الخطير تقتضي العجلة في تأليفها. وهو ما يحيل إلى رؤية نصر الله لمهمّة الحكومة العتيدة.
من الواضح أنّ حسابات الحزب المتّصلة بالتطوّرات الإقليمية والدولية لا تنطبق على حسابات باسيل الضيّقة نسبياً، والمرتبطة بالصراع الماروني على صناديق الاقتراع في القرى والبلدات… ثمّ على “العرش” الرئاسي
بات توقيت تأليف الحكومة عاملاً حاسماً في تحديد مهمّاتها. هناك فرق كبير بين أن تؤلّف الحكومة بعد أسبوع أو اثنين أو أن تؤلّف بعد شهر أو اثنين أو أكثر. فالفارق هنا ليس فارقاً زمنياً وحسب، بل هو فارق سياسيّ. إذ كلّما اقتربنا أكثر من موعد الانتخابات النيابية، تحوّلت الحكومة إلى حكومة انتخابات على حساب قدرتها على كبح جماح الانهيار.
حتّى لو تشكّلت الحكومة اليوم أو غداً، فقد أصبحت، بعد كلام نصر الله، حكومة انتخابات، لكنّ توقيت تأليفها هو ما يفصل بين مهمّتها السياسية لإجراء الانتخابات، وبين مهمّتها التقنيّة للبدء بمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية. مع الأخذ في الاعتبار أنّه كلّما تأخّر تأليف الحكومة، تفاقم الانهيار، وأصبحت قدرتها على معالجته أصعب وأعقد. لكن هذا هو لبنان حيث الأولويات السياسية للأحزاب والقوى تطغى على كلّ ما عداها من قضايا معيشية، مهما بلغت درجات خطورتها.
إنّ عدم استعجال حزب الله تشكيل الحكومة متّصلٌ بأمرين قد يكونان مترابطين، على الرغم من فارق الأهمّيّة بينهما.
الأمر الأوّل هو انتظار الحزب انقشاع المشهد الإقليمي، ولا سيّما في ظلّ المسار المتأرجح لمفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، والذي يزداد تأرجحاً كلّما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 18 من الشهر الجاري. إذ أصبحت العقوبات الأميركية غير المرتبطة بالاتفاق النووي عقبةً أساسيةً تؤخّر التوصّل إلى اتفاق بين طهران وواشنطن، خصوصاً العقوبات المفروضة على المرشّح الأوفر حظّاً المحافظ إبراهيم رئيسي. وهو ما يمكن أن تستغلّه واشنطن للمفاوضة مع الحكومة الإيرانية العتيدة على بنود جديدة مقابل رفع هذه العقوبات عن رئيسي.
في المحصّلة، لقد بات من شبه المؤكَّد أنّ هذا الاتفاق رُحِّل إلى ما بعد الانتخابات الإيرانية.
والأمر الثاني هو أنّ العقد الداخلية التي تعيق تشكيل الحكومة أصعب من أن يستطيع الحزب حلّها في هذا التوقيت بالذات، أي عشيّة الاستحقاقين النيابي والرئاسي في العام المقبل. إذ إنّ القوى السياسية جميعاً ما عادت تفصل بين استحقاق تأليف الحكومة وهذين الاستحقاقين الانتخابيّين. وهذا ينطبق بقوّة على حليف الحزب النائب جبران باسيل، الذي يسعى بكل طاقته إلى تحسين شروطه النيابية والرئاسية انطلاقاً من حجم مشاركته في الحكومة العتيدة، مقيماً رابطاً وثيقاً بين الاستحقاقات الثلاثة المذكورة.
لم يعد هذا الأمر عنواناً رئيساً للخلاف بين الرئيس سعد الحريري وباسيل، بل يتضّح يوماً بعد آخر، ولا سيّما في ظلّ الإخفاقات أو التقدّم البطيء في اجتماعات الخليلين مع نائب البترون، أنّ إلحاح الأخير على تحسين شروطه السياسية، وخصوصاً بعد فرض العقوبات الأميركية عليه، بات عنوان أزمة بينه وبين الحزب.
تشير أوساط سياسيّة، متابعة عن كثب للحراك الفرنسي في لبنان، إلى أنّ الفرنسيّين يدرسون إمكان إجراء حوارات منفردة مع قيادات وشخصيات لبنانية لإعداد أرضية سياسية مناسبة يمكن البناء عليها لعقد مؤتمر “حوار أوسع” حول لبنان
لذا ما عاد يمكن الحديث عن عقدة حكومية متّصلة بالخلاف بين باسيل والحريري، بل إنّ العقدة الحكومية الأصعب هي بين الحزب وباسيل بسبب خلاف تكتيكي بين الطرفين حول مقاربة الاستحقاقات المقبلة. بعبارة أخرى، يريد باسيل وعداً رئاسياً من الحزب، أو يطمح إلى التقدّم بوتيرة أسرع في مفاوضاته الرئاسية مع الحزب، التي يأمل أن تنقله، في نهاية الأمر، من موقع الرئيس الظلّ إلى موقع الرئيس الفعلي.
لكن من الواضح أنّ حسابات الحزب المتّصلة بالتطوّرات الإقليمية والدولية لا تنطبق على حسابات باسيل الضيّقة نسبياً، والمرتبطة بالصراع الماروني على صناديق الاقتراع في القرى والبلدات… ثمّ على “العرش” الرئاسي.
يمكن الاستدلال على اختلاف الحسابات بين الطرفين، بصورة أوّليّة، من مضمون خطاب نصر الله الثلاثاء، الذي لاقى فيه بوضوح الموقف الفرنسي الداعي إلى انتخابات نيابية في موعدها.
لقد وضع الأمين العام لحزب الله هذه الانتخابات في سياقٍ فوق محلّي، بخلاف باسيل المهجوس بالمنافسة مع القوّات اللبنانية على صناديق دريا وكفيفان وتولا وغيرها من قرى جبل لبنان. فقد ربط نصرالله الانتخابات بالترتيبات السياسية، التي ستنتج عن أيّ تفاوض إقليمي – دولي حول لبنان، سيحين موعده عاجلاً أم آجلاً.
وتشير أوساط سياسيّة، متابعة عن كثب للحراك الفرنسي في لبنان، إلى أنّ الفرنسيّين يدرسون إمكان إجراء حوارات منفردة مع قيادات وشخصيات لبنانية لإعداد أرضية سياسية مناسبة يمكن البناء عليها لعقد مؤتمر “حوار أوسع” حول لبنان يأخذ، إلى هذا الحدّ أو ذاك، طابعاً دولياً.
إنّ استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقائد الجيش العماد جوزيف عون في 26 أيار، والمؤتمر الدولي لدعم الجيش الذي دعت إليه فرنسا في 17 حزيران، هما بمنزلة انتقال باريس إلى الخطة باء في حراكها تجاه لبنان، بعدما تعثّرت مبادرتها لتشكيل الحكومة، فباتت تركّز على إجراء الانتخابات في موعدها. وهو انتقال قد يشهد مبادرات فرنسية مختلفة.
ولعلّ زيارة السفيرة الفرنسية آن غريو، قبل أيّام، لنائب حزب الله حسن عز الدين في صور، خلال جولة لها في الجنوب، تعدّ الإشارة الأحدث لاستمرار القنوات الفرنسية مع الحزب. وهي قنوات مرشّحة للتفعيل أكثر في ظلّ المناخ الإقليمي والدولي في حقبة ما بعد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي قيّد يديْ باريس ورجليْها في المنطقة.
فهل تستعدّ باريس لمؤتمر سان كلو جديد على غرار ذاك الذي عقدته في عام 2007 وجمع شخصيات لبنانية من أطراف الأزمة وقتذاك؟
لا مؤشّرات أكيدة في هذا الاتجاه حتّى الساعة، لكنّ الأكيد أنّ دعوة النائب باسيل لعقد مؤتمر حوار داخلي لم تلقَ اهتماماً من أيّ فريق داخلي، حتّى أولئك الذين ليسوا خصوماً للعهد والتيار، والدليل على ذلك أنّ نصر الله لم يتطرّق إليها الثلاثاء، ولو لماماً.
إقرأ أيضاً: “السيّد” للعونيّين: الحريري أوّلاً
في المحصّلة، يمكن القول إنّ الأزمة السياسية والاقتصادية دخلت مرحلة جديدة افتتحها الأمين العام لحزب الله الثلاثاء من خلال حديثه عن إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، الذي أكّد فيه ترابط الاستحقاقات الدستورية، الحكومية والتشريعية والرئاسية. هكذا لم يعد يوجد أدنى إمكان للفصل بينها، مهما بلغ حجم الانهيار. لذلك ربط نصر الله عدم استعجاله تشكيل الحكومة بالحديث عن إجراءات للدولة ولحزبه لمواكبة تفاقم الأزمة المعيشية، الذي لا بدّ أن يحصل ما دام تأليف الحكومة مؤجّلاً، وما دامت الحكومة العتيدة، منذ خطاب نصر الله الثلاثاء، قد تحوّلت إلى حكومة انتخابات أكثر منها حكومة لمعالجة الأزمة. والمفارقة أنّ نصر الله كلّما عرض حلولاً لمعالجة الأزمة، أكّد عمقها وخطورتها، بدلاً من العكس!