خطَّ وزير العدل الأسبق شارل رزق مساراً نموذجياً في القانون والإدارة والسياسة، بدأه بلقاء جمعه مع رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب، وكان رزق في الـ23 من العمر.
يُبرز تتبّع مسار الدكتور رزق شخصية يمكن إدراجها بسهولة ضمن بناة “الدولة العميقة” في لبنان، وخصوصاً في الإدارة والإعلام، ناهيك عن دوره المفتاحيّ قانونياً في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للتحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وذلك في عام 2007.
ينتمي رزق إلى عائلة عريقة في الأشرفية. نسج والده أنطوان علاقات واسعة مع المجتمع اللبناني المخمليّ في السياسة والإدارة والاقتصاد بحكم منصبه الأعلى في حقبة الانتداب الفرنسي، مستشاراً أوّل للمفوّض السامي الفرنسي.
يرى رزق أنّ شخصيات ثلاث طبعت تاريخ رؤساء الجمهورية في لبنان: الشيخ بشارة الخوري وكان عبقرياً بمعرفته تاريخ لبنان. كميل شمعون الداهية الذي كان يعرف لبنان قرية قرية. والثالث هو العماد فؤاد شهاب، الرئيس المثالي وباني دولة المؤسسات
ورث شارل، الذي وُلد في الأشرفية في 20 تموز 1935، هذه العلاقات، وتمكّن من الإفادة منها في مساره المهني والسياسي منذ نعومة أظافره. نجل أنطوان رزق ولودي خبّاز تلقّى تربية دينية مسيحية صارمة. وهو ينتمي إلى الطائفة المارونية التي حُصِر فيها منصب الرئاسة الأولى. لذلك رزق هو مرشّح طبيعي للرئاسة الأولى بحكم خبرته وانتمائه إلى هذه الطائفة، أقلّه هذا ما يقوله الإعلام وأصدقاء له، لكنّه يبدو قاطعاً برفض هذا “السيناريو”: “مَن يترشّح للانتخابات الرئاسية في لبنان يكن سخيفاً لأنّ الانتخابات تأتي نتيجة توافق بين الأطراف، وليس بحسب رغبة الشخصيات”.
ويضيف: “يجب الإتيان برئيس يمثّل الوحدة الوطنية. من هو؟ لا أعرف. حكم لبنان من الأصعب عالمياً، والذي يختار هذه المهمّة يحتاج إلى إدارة وكفاية. تحتاج قيادة الطائرة اللبنانية إلى طيار ذي خبرة، وإلّا فلا يمكنه أن يكون رئيساً للبنان”.
يرى رزق أنّ “شخصيات ثلاث طبعت تاريخ رؤساء الجمهورية في لبنان: الشيخ بشارة الخوري وكان عبقرياً بمعرفته تاريخ لبنان. كميل شمعون الداهية الذي كان يعرف لبنان قرية قرية. والثالث هو العماد فؤاد شهاب، الرئيس المثالي وباني دولة المؤسسات… لقد استمددت إلهامي السياسي من هؤلاء الثلاثة”.
تابع رزق دراسته في مدرسة الآباء اليسوعيين في الأشرفية، حيث نال شهادة البكالوريا، ثمّ انتقل إلى دراسة الحقوق في جامعة القديس يوسف. وضع نصب عينيه منذ يفاعه أولويّتين: التفوّق الجامعي وممارسة الرياضة على أنواعها، وخصوصاً القتالية منها، كالكاراتيه والجودو، وصولاً إلى كرة المضرب. سافر في عمر العشرين إلى باريس، حيث أتمّ الدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية في جامعة باريس بتفوّق. ثقّفته الإقامة في باريس لأعوام أربعة، وساعدته على الانتقال من سنّ المراهقة إلى النضوج. في تلك المرحلة تعرّف شارل رزق إلى الفيلسوف الوجودي جان-بول سارتر الذي كان أستاذاً في جامعة السوربون: “إنّه أبرز فلاسفة القرن العشرين. لقد تسنّت لي مجالسته في مقاهي باريس، وتأثّرت به. هو من طبع القرن العشرين برمّته لأنّه علم من أعلام الفكر. كثر معارضوه، وهو يثير المعارضة، لكن لا يمكن تجاهله البتّة”.
صحيح أنّ خال رزق غابرييل خبّاز هو مؤسس صحيفة “لوريان” في عام 1924، لكنّ شارل لم يشأ يوماً العمل في الصحافة، إذ شاء قدره أن يكون في المقلب الآخر للصحافيين، وخصوصاً حين كان مديراً عامّاً لوزارة الأنباء، أي الإعلام حاليّا. وكان غابرييل خباز شريكاً سياسياً لرئيس الجمهورية الأسبق إميل إده. وينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك. وقد عيّنه إده وزيراً للأشغال العامّة عند تولّيه رئاسة الجمهورية في عام 1936.
رزق هو مرشّح طبيعي للرئاسة الأولى بحكم خبرته وانتمائه إلى هذه الطائفة، أقلّه هذا ما يقوله الإعلام وأصدقاء له، لكنّه يبدو قاطعاً برفض هذا “السيناريو”: مَن يترشّح للانتخابات الرئاسية في لبنان يكن سخيفاً لأنّ الانتخابات تأتي نتيجة توافق بين الأطراف، وليس بحسب رغبة الشخصيات
اختار أن تكون أطروحة الدكتوراه عن النظام السياسي اللبناني، وكانت فأل خير عليه في حقبة كان رئيس الجمهورية آنذاك العماد فؤاد شهاب يعمل على الإصلاح السياسي والإداري. وفور طباعتها أرسلها رزق (في عام 1960) إلى شهاب، فدعاه إليه للتعرّف إليه برسالة دوّنها بخطّ يده بالريشة والحبر. التقاه رزق في القصر الجمهوري في الزّوق: “اتّسم اللقاء بأهمية خاصة، ليس لأنّ شهاب كان رئيس الجمهورية، بل لأنّه فؤاد شهاب”. ويضيف: “قابلته لاحقاً عدّة مرّات، وتكوّن لديّ الانطباع ذاته. إنّ الرئاسة هي صنو للهيبة، وكان شهاب مفعماً بالهيبة والوقار. وهذا ما يفتقر إليه كثير من الرؤساء”.
سرعان ما عيّن شهاب رزق مديراً للدروس في مجلس الخدمة المدنية الذي كان أنشأه حديثاً برئاسة فريد الدحداح في عام 1960. وكانت مهمّة المجلس الإشراف على كلّ ما يتّصل بالإدارة العامة، فكان مسؤولاً عن تعيين الموظفين عبر تنظيم مباريات الدخول وتدريبهم وإعدادهم للوظيفة: “كان عدد سكان لبنان في عام 1963 قرابة 3 ملايين نسمة، فيما عدد الموظفين الإداريين لا يتجاوز 17 ألفا. اليوم يبلغ تعداد السكان 6 ملايين، ولديهم 300 ألف موظف إداري… ويسألون لِمَ أفلست الدولة!”.
انتهى عهد شهاب، فتولّى شارل حلو رئاسة الجمهورية، وعُيّن رزق مديراً عاماً لوزارة الأنباء، وانقلبت مرحلة العسل مع شهاب إلى عمل شاقّ مع حلو. “عشت مرحلة صعبة”، يقول رزق لـ”أساس”. “لقد تنصّل شارل حلو من الشهابية على الرغم من كونه مديناً بالرئاسة لفؤاد شهاب. كان من المفترض أن أكون كمدير عام لوزارة الأنباء من المقرّبين للرئيس حلو، لكن حصل العكس”. يقسو برأيه على عهد حلو: “أوقعت رئاسة شارل حلو لبنان في كلّ ما عاناه من أزمات لاحقة في ما يخص تطبيق النظام السياسي”. ويشير بإعجاب إلى فرادة تجربة فؤاد شهاب في المواءمة بين التعدّدية الطائفية والعمل السياسي البرلماني المنتظم: “برهن الرئيس شهاب على أن لا تناقض بين الطائفية الموجودة في لبنان وبين القدرة على تطبيق النظام البرلماني، بحيث تحكم الأكثرية وتعارض الأقلّية. والسؤال المعضلة هو كيفية جمع أكثرية سياسية في بلد مؤلّف من الأقليات”.
“لقد برهن شهاب على أنّ الأمر ممكن، إذ أنشأ كتلة سياسية، هي “النهج”، ضمّت بيار الجميل ورشيد كرامي وكمال جنبلاط وصبري حمادة، في مقابل كتلة معارضة، هي “الحلف”، ضمّت كميل شمعون وريمون إده وكامل الأسعد وصائب سلام. جمعت الكتلتان معارضة من الطوائف كلّها، فأثبت شهاب أن لا تناقض بين الانتماء الطائفي والتكتّل السياسي، كما يكون في الأنظمة البرلمانية المعروفة”. ويشرح رزق النظام البرلماني بالقول إنّه “يقوم على ثنائية كتلتين سياسيتين: الأكثرية التي ترتكز عليها حكومات ثابتة وفعّالة، والأقلية التي تمثّل المعارضة. قبل مجيء شهاب إلى الحكم كان يُقال إنّه في بلد قائم على تعدّدية الأقليات الطائفية لا يمكن اعتماد هذه الثنائية السياسية، وكانوا يسألون كيف يمكن إيجاد أكثرية سياسية في بلد الأقليات؟”.
يصف رزق الأمر بكونه “معجزة الرئيس شهاب”، ويضيف: “خالف شارل حلو هذا النهج الشهابي، فكان أوّل معادٍ للشهابية. بدأت معاملته لي جيدة، وانتهت سيّئة. ولمّا لاحظت انتقاده لشهاب، ابتعدت عنه بانتظار الفرج الذي حلّ بنهاية عهده”.
في عهد الرئيس سليمان فرنجية، انتقل شارل رزق إلى وظيفة مفتّش عامّ في هيئة التفتيش المركزي بين عاميْ 1970 و1973، وشرع في تأليف كتابين اثنين، هما: “بين الإسلام والعروبة” (Entre l’Islam et l’arabisme)، و”العرب أو التاريخ في الاتجاه المعاكس” (Les Arabes ou l’histoire a contre sens)، وكلاهما باللغة الفرنسية، وصدرا عن دار “البين ميشال”.
إقرأ أيضاً: سجعان قزّي (1): كاتانغا.. المبشّر بالحياد
لم يكن مقرّباً من فرنجية ولا من فريقه السياسي، وعيّن في ذلك العهد مديراً عامّاً للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني بين عاميْ 1974 و1976، “قبل أن يتحوّل النهر إلى مجرور، وكان سابقاً يشبه بحيرة جنيف”.
في تلك الحقبة تعرّف إلى الإمام موسى الصدر.
غداً في الحلقة الثانية: من الهذيان القول إنّ الطائف سحب الصلاحيات من رئاسة الجمهوريّة