شديد الأهمية الحدث العراقي والجدل الدائر بين القوى والفصائل والمكوِّنات، التي تشغل المشهد السياسي، حول العلاقة بينها وبين الحكومة بقيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، والاستعدادات الحثيثة التي تسيطر على الحراك السياسي استعداداً للانتخابات البرلمانية المبكرة، وطبيعة التحالفات التي يجري العمل لها. لكن لا بدّ لأيّ متابع أن يذهب وراء الجهة التي كان لها الدور الفاعل أو المحرّك الذي دفع القوى السياسية إلى تبنّي خيار الحكومة المؤقّتة ومبدأ الانتخابات المبكرة بهدف معلن هو إنتاج طبقة سياسية جديدة تعبّر عن إرادة الشارع العراقي ومطالبه بإنهاء الفساد ومحاسبة المسؤولين عن نهب مقدّرات البلاد، وفرض العدالة، وهيبة الدولة وسيادتها على المؤسسات الإدارية والعسكرية والأمنيّة بعدما تحوّلت إلى ساحات نفوذ وتقاسم بين المكوّنات الطائفية والحزبية.
كي تفتّش عن “تشرينيّي العراق”، هذه الحركة الشعبية التي انطلقت بشعارات مثالية منها: “أريد وطناً”، وطالبت بمحاكمة القوى المسؤولة عن انهيار البلد، لا بدّ لك من أن تذهب إلى الساحات التي شكّلت وتحوّلت إلى مسرح لهذا الحراك، الذي عُقدت عليه آمال كثيرة وكبيرة في التغيير.
يبدأ هذا المسرح البغدادي من ساحة النسور، فساحة الطيران، فساحة التحرير، إلى جسر السنك، ثمّ جسر الجمهورية. تلك هي الأماكن وساحات الاعتصام التي شكّلت عناوين الاهتمام الدولي السياسي والإعلامي في السنتين الماضيتين منذ انطلاق حراك تشرين. وكانت محطّته الأخيرة في 25 نيسان 2021، حيث انطلقت التظاهرات التي تداعت لها شبيبة تشرين المصرّة على الاستمرار ومواجهة السلطة وفاء وإحياء لذكرى اغتيال الناشط إيهاب الوزني في مدينة كربلاء وسط العراق.
اليوم، لا ترى أيّ أثر أو دليل يقودك إلى الضجيج “الثوري” الذي سيطر على المشهد لأكثر من تسعة أشهر متوالية، وحوَّل هذه الساحات إلى فناءات خلفيّة لبيوت ومنازل تعجن خبزها بالوجع والحرمان الذي خرج منه هؤلاء الشباب.
كي تفتّش عن “تشرينيّي العراق”، هذه الحركة الشعبية التي انطلقت بشعارات مثالية منها: “أريد وطناً”، وطالبت بمحاكمة القوى المسؤولة عن انهيار البلد، لا بدّ لك من أن تذهب إلى الساحات التي شكّلت وتحوّلت إلى مسرح لهذا الحراك، الذي عُقدت عليه آمال كثيرة وكبيرة في التغيير
عناصر من القوات الأمنيّة والشرطة ومكافحة الإرهاب ومكافحة الشغب تتوزّع في الأماكن التي كان يتوزّع فيها الشباب والثوار. على الأرصفة والساحات، على المفارق والتقاطعات، تستوقفك حواجز تطالع الوجوه العابرة سيراً أو في سيارات وحافلات. تفتّش عن أثر لتشرين في الوجوه وتستجوبها. تحت كل إشارة ضوئية، وإلى جانب كل عامود إنارة، وبالقرب من كل عامود تراثي “دنگه”، وعلى امتداد شارع الرشيد والشوارع التاريخية الأخرى المحيطة به والتي تشكّل عصب بغداد وحيويّتها، تجد رجلاً مدجّجاً بالسلاح وأوامره التصدّي لخطر كامن حدّدت معالمه السلطة. هو على أهبة الاستعداد للتعامل معه بكل ما أوتي من قسوة وحزم. كيف لا، وهو وزملاء له دخلوا في نفق التجهيل بقرار سيادي؟ وسبق أن فتحوا النار بوجه صدور عارية، مُخرِجين نحو 500 من المتظاهرين من سجلّ الحياة، ومُدخلين آلافاً آخرين في عداد الشلل اليومي لإعاقة تسبّبت بها رصاصة لم تصِب منهم مقتلا.
تفتّش عن “تشرينيّي” تشرين العراقي، تذهب وراءهم في الزوايا التي توفّر لهم بعض الأمن وتحميهم من الملاحقة التي تنتهي بالمحاكمة والسجن. تمسك ببعضهم في لحظة خارج التوقّع. تسألهم عمّا حصل وكيف آلت الأمور إلى ما وصلت إليه، فتصطدم بكلام متعارض ومتناقض يعيد إحياء ذاكرة المشهد التشريني اللبناني، وتجد أنّك أمام أكثر من تشرين:
واحدٌ حالم حدّ الشعر، وآخر واقعيّ حدّ المرارة، والأخطر بينها ذلك المستفيد حدّ الانتهازية. لقد أنشب مرض الانقسام أنيابه في هذا الجسد الغضّ، الذي يتناهبه المرتجى الوطني وأمل التغيير الحقيقي والمصلحة في الدخول إلى دورة الفساد والمشاركة فيها وتقاسم غنائمها. وتدرك أنّ السلطة في العراق، بما هي نظام مصالح يجمع القوى والمكوّنات المسيطرة، قد استطاعت، كما في لبنان، أن تعيد كلّ واحد إلى المنزل الذي خرج منه، إلى البيت الكبير، وأنّ مَن ظلّ متمسّكاً بالحلم أو الشِعر أو الحقّ في التغيير بقي في الفناء يتعرّض لسياط الشمس الحارقة، ولا أحد يرغب بأن يقدّم له ظلّاً يقيه احتمالية الموت حرّاً أو قتلاً أو تشريداً على قارعة الوطن.
تفتّش عن “تشرينيّي” تشرين العراقي، تذهب وراءهم في الزوايا التي توفّر لهم بعض الأمن وتحميهم من الملاحقة التي تنتهي بالمحاكمة والسجن. تمسك ببعضهم في لحظة خارج التوقّع
لا شكّ أنّ حراك تشرين قد نثر بذرة التغيير في المجتمع العراقي. وبانتظار أن تشقّ براعمها الأرضَ وتخرج إلى الشمس قويّة قادرة على الحياة والاستمرار، هناك وقت طويل للانتظار، أقلّه انتظار أن يكتمل النضج السياسي والديموقراطي الذي هو شرط للتغيير وأهدافه ورجاءاته. ومعركته طويلة ومعقّدة ومركّبة مع النظام الجديد، الذي انبثقت عنه السلطة القائمة على المحاصصة والتقاسم والمصالح الفئوية والمذهبية والطائفية، وكأنّها استنساخ سريع للتجربة اللبنانية، في موالاتها ومعارضتها، التي تبلورت منذ ما قبل الإعلان الرسمي عن استقلال لبنان، وقد تكون سبقت إعلان دولته الكبيرة.
إقرأ أيضاً: العراق: إيران غاضبة من “عروبة” الكاظمي
ما بين تشرين، الذي وصلت مطالبه إلى حدّ الدعوة إلى هدم النظام الديموقراطي الذي قام ما بعد 2003، والعودة إلى نظام ديكتاتوري فردي لإعادة إسقاطه وبناء ديموقراطية جديدة، وهو تشرين يشبه إلى حدّ ما بعض الأصوات اللبنانية التي تطالب وتدعو إلى هدم هيكل النظام اللبناني وبناء نظام جديد على أنقاضه، وبين تشرين الذي يسعى إلى هدف واضح، لكنّه صعب التحقيق، يقوم على هدم الجدار الذي صنعته السلطة المنبثقة عن النظام الجديد، وإسقاط منظومة المصالح والتقاسم والنهب التي وضعت العراق على حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والطائفي، يطلّ تشرين آخر، انتهازي وبراغماتي، يرى في الحراك فرصة للدخول إلى ملعب السلطة والشراكة في المغانم والامتيازات، ولا يجد حرجاً في أن يصعد سلّم هذه السلطة على دماء الشباب التي سالت في ساحات الاعتراض، لا بل يرى في كل مواجهة بين حراك المعترضين والسلطة فرصةً تقرِّبه من تحقيق ما يطمح إليه.
بانتظار أن تنضج التجربة التشرينيّة العراقية، تبقى السلطة في هذا البلد هي السلطة التي لا ولن تتردّد في الدفاع عن مصالحها والحفاظ على ما هو قائم، مع محاولات خجولة لإسكات المعترضين بإصلاحات ظاهرية وسطحية لا تمسّ جوهر الأزمة أو تحدث فيها تغييراً أساسياً.
وهل السلطة غير ذلك؟