لم يكن الدكتور شارل رزق مقرّباً من عهد الرئيس سليمان فرنجية ولا من فريقه السياسي، وعُيِّن في ذلك العهد مديراً عامّاً للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني بين عاميْ 1974 و1976، “قبل أن يتحوّل النهر إلى مجرور، وكان سابقاً يشبه بحيرة جنيف”.
في تلك الحقبة تعرّف إلى الإمام موسى الصدر.
“لقد أُعجبت بالإمام الصدر منذ الوهلة الأولى، وكان يُنظر إليّ كواحد من أنصاره. التقيت مع السيد موسى على أساس فكري، وطالما نسيت أنّنا من دين مختلف. لم أرَ فيه إلا ما يجمع. كان يتجاوز الدين لأنّه رجل فكر وإيمان حقيقي وشخصية جاذبة ومؤثّرة وإنسان غير اعتيادي”. زار الإمام المغيّب رزق في منزله في الأشرفية ثلاث مرات، حيث كان يتناول العشاء مع شلّة من الأصدقاء، منهم المرحوم الدكتور فؤاد البستاني الذي كان الصدر يكنّ له محبة خاصّة.
يشخّص رزق معضلة النظام السياسي اللبناني، معتبراً أنّه لا توجد في الواقع أزمة نظام. فقد أثبتت تجربة الرئيس فؤاد شهاب أنّه يمكن التوفيق بين احترام التعدّدية الطائفية وقيام جبهة معارضة من خلال تجربتيْ “النهج” و”الحلف”
بعد تغييبه ورفيقيه في عام 1978، اختلّت الموازين اللبنانية من وجهة نظر رزق: “إنّ غياب الإمام موسى الصدر بدّل موازين القوى كلّها في المجتمع الفكري والسياسي اللبناني لأنّ الإمام كان حجر ثقل، ولبنان يفتقده إلى اليوم”.
عاد العصر الذهبي لرزق في عهد الرئيس إلياس سركيس، الشهابي الأصيل، وصديقه منذ أيام شهاب. “كان سركيس يريد توحيد لبنان وإنهاء الانقسام الحاصل بين المنطقتين الغربية والشرقية”. بدأت الخطة من توحيد تلفزيون الدولة الذي كانت تملكه شركتان، إذ كانت القناتان 11 و5 في الشرقية تقصفان كلامياً القناتين 7 و9 في المنطقة الغربية، بعدما استولت على الأقنية قوى الأمر الواقع والمنظمات الفلسطينية. “لم يكن ممكناً توحيد البلد في ظل الشتائم المتبادلة يومياً على أجنحة الأثير”.
طلب سركيس مساعدة رزق في وقف هذه الجبهات نظراً إلى خبرته الإعلامية. اقترح رزق دمج الأقنية، وتقديم مكسب مالي وتجاري للشركتين المفلستين، وأن تشتري الدولة نصف أسهم كل شركة من الشركتين بمبلغ 15 مليون ليرة بشرط أن تندمجا في شركة واحدة يكون للدولة فيها نصف الأسهم، على أن يرأس رزق مجلس إدارتها.
كلّف سركيس رزق بملفّ الشركتين ودمجهما، ولمّا كانت فرنسا مساهمة في التلفزيون في المنطقة الغربية، حُدِّد موعد لرزق لمقابلة الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان بمساعدة من مستشاره الذي كان زميلاً له على مقاعد الدراسة. سهّل ديستان الدمج وأعطى التعليمات للشركة الفرنسية بالمساهمة في التلفزيونات آخذةً بتوجيهات رزق. وكانت النتيجة أن أنشأ رزق بجهوده شركة تلفزيون لبنان مع 3 قنوات ناطقة بالعربية والفرنسية والإنكليزية، وشغل رئاسة مجلس إدارتها بين عاميْ 1978 و1982. كان التلفزيون في بداياته في حالة من الإفلاس المالي، وبعد مرور عامين صار لديه فائض في المداخيل.
صارت كل طائفة في لبنان تمثّل طابوراً خامساً لقوة خارجية. المشكلة ليست في النظام، بل في قابلية الطوائف المختلفة للسير وراء قوة إقليمية”
سمح توحيد التلفزيون لسركيس بالحكم مع إسكات “القذائف” الكلامية المتبادلة. وقد سرت بعض الأحاديث الصحافية الخاطئة عن أنّ رزق استقال في عام 1980 إثر خطفه من قبل “القوات اللبنانية” في عهد بشير الجميل. لكن رزق ينفي الأمر جملة وتفصيلا: “كان والدي صديقاً لبيار الجميل، ووالدتي صديقة لزوجته، وأنا صديق لبشير. لم يكن ما حدث خطفاً، بل كلّ ما في الأمر أنّ بعض الشبان اقتادوني إلى مركز القوات في الكرنتينا لمدة نصف ساعة، فما كان من الشيخ بيار الجميل، بعدما عرف بالحادثة، إلّا أن أتى شخصياً ونقلني بسيارته إلى منزلي في الأشرفية. ثمّ زارني بشير معتذراً أمام الناس الموجودين، وقد كان بشير يريد منّي أن أترك له قناة تلفزيونية شاغرة يبثّ منها برامج خاصّة به”.
انتقل في عام 1982، أي بعد اغتيال بشير الجميل وتسلّم أمين الجميل الرئاسة، إلى العمل الخاصّ، فأنشأ شركة تجارية “داتا مانجمنت”، وكان رئيس مجلس إدارتها بين عاميْ 1983 و1988.
رَأَس منذ عام 1988 مجلس إدارة “داتا مانادجرز إنترناشيونال ليميتد”، وكان إلى ذلك مديرها العام، بالإضافة إلى إدارة عدة شركات معلوماتية، حتى تعيينه وزيراً للإعلام والسياحة في عام 2005 في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري (حيث استمر وزيراً من نيسان إلى تموز)، ثمّ عُيِّن وزيراً للعدل في الحكومة التي شكّلها الرئيس فؤاد السنيورة في تموز 2005، واعتُبر آنذاك مفتاحاً أساسياً لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
لم تكن علاقة رزق برئيس الجمهورية الأسبق العماد إميل لحود جيدة إلا في البدايات، حتى إنّه لا يحب القول إنّه كان ممثّله الشخصي في المجلس الدائم للفرنكوفونية: “كانت تربطني صداقة برئيس الجمهورية إلياس الهراوي، وكان ممثّله إلى المنظمة الفرنكوفونية النائب خاتشيك بابكيان، فترك المنصب، وعيّنني إلياس الهراوي مكانه، علماً بأنّ الأمر ليس وظيفة، بل هو تبرّع وخدمة عامة بقيتُ فيها 10 أعوام”.
بالنسبة إلى عهد الرئيس لحود، فقد كان والد رزق صديقاً لجميل لحود والد إميل، ووالدته صديقة والدته، وهو يرتبط بصداقة مع شقيقه نصري الذي كان زميله في الجامعة: “علاقتي بإميل كانت سطحية”. يرفض القول إنّه اصطدم بالرئيس لحود عند تسلّمه وزارة العدل: “كلّ ما حصل أنّه بعد اغتيال الرئيس الحريري، كانت ثمة حاجة قوية إلى محكمة دولية تقي القضاء اللبناني هذه الكأس المُرّة. أنشأنا المحكمة الدولية تفادياً لإحراج أو افتضاح أمر القضاء اللبناني، ولعدم تحويله إلى أضحوكة دولياً”. يرفض رزق بحزم التعليق على حكم المحكمة الدولية النهائي في قضية الحريري: “بعد إنشاء المحكمة لم يعد لي أيّة علاقة بها. لقد سحبت يدي منها، ولا أرغب بالتفوّه بكلمة واحدة حول هذا الموضوع. أكتفي بالقول إنّ الدافع كان إبعاد هذه الكأس المرّة عن القضاء اللبناني الذي لم يكن قادراً على عمل أيّ شيء حيال هذا الموضوع، ولتجنّب الانقسام في الجسم القضائي”.
يقول رزق: “لا علاقة للصلاحيات بأزمتنا الراهنة. من الهذيان القول إنّ الطائف سحب الصلاحيات من رئاسة الجمهورية. لم يكن فؤاد شهاب قادراً على تعيين موظف بلا توقيع رئيس الحكومة رشيد كرامي. وهما أدارا الدولة على أكمل وجه، لأنّ الاثنين يتّفقان على مبدأ لبناني واحد”
يشخّص رزق معضلة النظام السياسي اللبناني، معتبراً أنّه “لا توجد في الواقع أزمة نظام. فقد أثبتت تجربة الرئيس فؤاد شهاب أنّه يمكن التوفيق بين احترام التعدّدية الطائفية وقيام جبهة معارضة من خلال تجربتيْ “النهج” و”الحلف”. وهو ما يدلّ على أنّ النظام السياسي اللبناني جيّد، ويستطيع أن يدير لبنان بشكل ممتاز، وأن يقدّم له الاستقرار الضروري لازدهار الاقتصاد”. ويضيف: “لا يتعلّق الأمر بالنظام، بل بقابلية اللبناني للانجرار وراء قوة إقليمية خارجية، وتفضيل هذه القوى على الداخل اللبناني. إنّ حرب عام 1975 بدأت بين الميليشيات الفلسطينية والمسيحية. دعم السنّة الفلسطينيين منجرّين إلى الانتماء الطائفي. ولمّا دخلت سوريا إلى لبنان في عام 1976، بناءً على طلب الزعامة المارونية، فتّشت عن حليف مسلم فوجدته في القوة الشيعية، وأنشأت حركة “أمل”. من جهتهم، انجرّ المسيحيون وراء إسرائيل، وصار الحلف الماروني الإسرائيلي. صارت كل طائفة في لبنان تمثّل طابوراً خامساً لقوة خارجية. المشكلة ليست في النظام، بل في قابلية الطوائف المختلفة للسير وراء قوة إقليمية”.
يكمن الحل في نظر رزق في “تخلّي الطوائف عن الخارج، والعودة إلى الوحدة الوطنية وعدم تفضيل قوى خارجية على لبنان”. لكنّ الإخفاقات الدستورية التي يمرّ بها البلد حالياً يردّها القادة السياسيون إلى انتفاء الصلاحيات لدى رئيس الجمهورية لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعا. يقول رزق: “لا علاقة للصلاحيات بأزمتنا الراهنة. من الهذيان القول إنّ الطائف سحب الصلاحيات من رئاسة الجمهورية. لم يكن فؤاد شهاب قادراً على تعيين موظف بلا توقيع رئيس الحكومة رشيد كرامي. وهما أدارا الدولة على أكمل وجه، لأنّ الاثنين يتّفقان على مبدأ لبناني واحد”.
إقرأ أيضاً: شارل رزق (1): الرئيس المقبل عليه أن يكون طيّاراً ذا خبرة
رزق الذي صرّح في حديث إلى صحيفة “الشرق الأوسط”، في عام 2006، بأنّ لبنان لن يستقرّ إلا بتوازن المصالح الإيرانية والأميركية، يقول اليوم: “هاتان قوّتان خارجيّتان رئيستان، وثمّة غيرهما: القوة الفرنسية والروسية والسعودية. يجب أن يُحسن لبنان إقامة سياسة التوازنات، فلا يتبع أيّة دولة، وأن يقيم التوازن بين مختلف الدول بشرط أن تنتهج هذه الدول سياسة دبلوماسية مع لبنان، ولا تتحيّز لفئة لبنانية معيّنة. مثلاً لا يمكن لإيران (كما لا يمكن لسواها من الدول) أن تسيطر على لبنان عبر طرف واحد، بل عليها أن تمدّ جسوراً مع بقية الطوائف اللبنانية، وأن تتفاعل معها”.