يمكن القول إن إبراهيم رئيسي، رجل الدين الذي دخل إلى المؤسسة الدينية منذ نعومة أظفاره في سنّ الخامسة عشرة، هو ابن مؤسسة النظام التي تنسجم مع مفهوم “الحكومة الدينية” أو “الحكومة الإسلامية” التي نظّر لها الإمام الخميني منذ خمسينيات القرن الماضي في كتابه الذي حمل العنوان نفسه “الحكومة الإسلامية”.
ثمّ هذّب الخميني هذه الأطروحة من خلال إضافة البعد الجمهوري إلى النظام، الذي أقامه في إيران بعد انتصار الثورة عام 1979، وذلك أوّلاً لصعوبة تطبيق المفهوم الإسلامي في الحكم بما ينسجم مع هذه النظرية، التي حاولت قوى أخرى تطبيقها أو الوصول إليها عن طريق التمكين الذي عمل عليه الإخوان المسلمين، أو المفاهيم التي تبنّتها الحركات المتشدّدة والمتطرّفة التي انتهت إلى نموذج تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وثانياً للفهم المبكر لطبيعة المجتمع الإيراني المتعدّد إثنياً وقوميّاً ودينيّاً ومذهبيّاً.
مع وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية بعد مرحلة ممتلئة بالتوتّرات والأزمات الداخلية والدولية في عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، بدأ الحديث في الكواليس الإيرانية عن صعود نجم “رئيسي”، مع اختلاف في القراءات
أن يجد رئيسي نفسه في سن العشرين منخرطاً في سلك القضاء، فهذا أمرٌ قد يشكّل جزءاً من هوية أيّ رجل دين يرى من واجبه تطبيق الأحكام الشرعية والدينية، إضافةً إلى الطموح الشخصي إلى أن يكون حاكماً شرعيّاً مهيب الجانب وممسكاً بمفاتيح الأمر والنهي المتأتّية من منصب القضاء كجزء من نظام الحسبة الإسلامي.
وحسب التعريف، الذي يقدّمه رئيسي، المولود في 14 كانون الأول 1960، إلى جانب كونه قاضياً وفقيهاً ورجل دين، فإنّه سياسي أصولي، ولذلك لم يخرج عن الإطار الذي رسمه لنفسه منذ بداية حياته العامة، فتدرّج في السلك القضائي ومرّ بجميع محطاته، وصولاً إلى تولّي رئاسة هذه السلطة بحكم أصدره وليّ الفقيه والمرشد الأعلى آية الله السيد علي خامنئي في 7 آذار 2019.
مع وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية بعد مرحلة ممتلئة بالتوتّرات والأزمات الداخلية والدولية في عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، بدأ الحديث في الكواليس الإيرانية عن صعود نجم “رئيسي”، مع اختلاف في القراءات، بين واحدة تقول بأنّ قيادة النظام والدولة العميقة بدأتا إعداد هذا الرجل ليكون خليفةً للمرشد، وليتولّى موقع ولاية الفقيه، وبين أخرى لا تنفي هذا التوجّه، لكنّها قالت بضرورة أن يتمرّس رئيسي في إدارة السلطة التنفيذية لتكتمل تجربته السياسية، تمهيداً ليكون خليفةً للمرشد.
في عام 2017، لم يكن مفاجئاً أن يكون رئيسي مرشّح إجماع للتيار المحافظ في مواجهة الرئيس حسن روحاني الطامح إلى تجديد ولايته الرئاسية للمرة الثانية. باتت الأمور مهيّأة للتيار المحافظ والدولة العميقة للقيام بالخطوة التي تسمح لهما باستعادة رئاسة الجمهورية من الفريق المنافس. ولا فرق هنا بين معتدل أو إصلاحي، خصوصاً أنّ روحاني قد أدّى المهمّة المطلوبة منه، واستطاع الحصول على الاتفاق النووي من واشنطن في 15 تموز 2015، لذا ستكون مهمّة الدولة العميقة أن تأتي برئيس للجمهورية والسلطة التنفيذية من فريقها لتكون قادرة على استثمار نتائج هذا الاتفاق على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية.
لم يفُز إبراهيم رئيسي بصفته مرشّح إجماع للتيار المحافظ في الانتخابات الرئاسية عام 2017. وذهبت التقديرات إلى أنّه سيكون الرئيس المقبل للسلطة القضائية بعد رئيسها في ذلك الوقت الشيخ صادق لاريجاني
فشِل رئيسي في إلحاق الهزيمة بروحاني، وتحوَّل إلى رأس المعارضة للحكومة الجديدة، معلناً أنّه يمثّل أصوات أكثر من 16 مليون مواطن إيراني اقترعوا له في الانتخابات.
وفي خطوة لتعزيز مكانته الدينية والاجتماعية والسياسية، وعلى عكس كل توقّعات خصومه بتراجع حظوظه القيادية، كان قرار المرشد الأعلى بتعيينه رئيساً ومشرفاً على الحضرة الرضوية في مدينة مشهد شرق إيران سنة 2015، وهي مؤسسة تعتبر من أكبر وأضخم المؤسسات والمراكز الاقتصادية في الشرق الأوسط لِما تملكه من أصول وشركات ومؤسسات وأموال واستثمارات في جميع القطاعات. فما كان من رئيسي إلا أن حوَّل هذه المؤسسة إلى منصّة للتصويب على حكومة روحاني وإدارتها الاقتصادية، إلى درجة أنّه يُتَّهم بالوقوف وراء التحرّكات الاعتراضية التي خرجت في مشهد أواخر عام 2018 وبداية عام 2019، على خلفيّة انهيار بعض المؤسسات المالية. لكنّ رقعة هذه التحرّكات اتّسعت وخرجت عن السيطرة وعمّت أكثر من مئة مدينة وناحية بما فيها المدن الكبرى، وخاصة طهران، وأجبرت النظام على الدخول في مواجهات عنيفة مع المتظاهرين أدّت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى.
أعاد هذا التعيين في الحضرة الرضوية رئيسي إلى صدر التوقّعات، فكان مقدّمةً وتمهيداً لتعيينه على رأس السلطة القضائية، وهي الخطوة التي لم تتأخّر وأُعلِنت في آذار 2019، ثمّ كان انتخابه نائباً أوّلَ لرئيس مجلس خبراء القيادة، وهذا يعني أنّه إذا حدث أيّ تطوّر مفاجئ للمرشد الأعلى سيكون واحداً من اللجنة التي تتولّى إدارة المرحلة الانتقالية إلى حين انتخاب خليفة للمرشد، أو سيكون عضواً أساسياً في مجلس القيادة إذا ما ذهب الخيار إلى عدم انتخاب مرشد جديد.
في العودة إلى عام 2017، لم يكن لدى التيّار المحافظ شخصية قادرة على منافسة حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية، لذا أجمعت قيادات هذا التيار على الدفع برئيسي ليكون المنافس الرئيس له، على الرغم من عدم امتلاكه لأيّ تجربة تنفيذية. لكنّه قَبِل خوض هذه التجربة تحت شعار محاربة الفقر والفساد، عمل التيار المحافظ، باستثناء بعض الأحزاب، على دعمه كمرشح إجماع. إلى حدّ أنّ محمد باقر قاليباف أعلن انسحابه من السباق لمصلحة رئيسي في الأيام الأخيرة قبل يوم الاقتراع. فتحوّلت المعركة الانتخابية إلى ثنائية بين رئيسي وروحاني. وهو ما لم يكن يرغب به المرشد الأعلى.
إقرأ أيضاً: إيران: رئيس “اقتصادي” داخلياً.. متشدّد خارجياً
لم يفُز إبراهيم رئيسي بصفته مرشّح إجماع للتيار المحافظ في الانتخابات الرئاسية عام 2017. وذهبت التقديرات إلى أنّه سيكون الرئيس المقبل للسلطة القضائية بعد رئيسها في ذلك الوقت الشيخ صادق لاريجاني.
ومن أجل الوصول إلى هذا الموقع كان عليه الانتظار لمدة سنتين لانتهاء ولاية صادق لاريجاني، إلا أنّ وفاة رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام وعضو مجلس صيانة الدستور والرئيس الأسبق للسلطة القضائية السيد محمود هاشمي الشاهرودي، وتولّي لاريجاني رئاسة مجمع التشخيص مكانه، إلى جانب بقائه في رئاسة السلطة القضائية لمدة ثلاثة أشهر حتى صدور قرار المرشد الأعلى بتعيين رئيسي في هذا المنصب في ظل أجواء عامّة كانت تتوقّع هذا التعيين.