الانتخابات السوريّة ووهم الانتصار

مدة القراءة 6 د

هل يمكن أن نستيقظ ذات صباح على خبر مفاده أنّ بشار الأسد لم يعُد على رأس السلطة في سوريا؟ انتقل إلى جوار ربّه في ظروف غامضة أو شُحِن مع عائلته على متن طائرة توبوليف عسكرية روسية إلى منتجع على البحر الأسود ليمضي فيه بقيّة أيامه؟

قد يكون السؤال من باب التمنّيات الخبيثة، علماً بأنّ أمنية من هذا النوع يتشاطرها ملايين السوريين. لكن ألا يضجّ التاريخ القريب والبعيد بأمثلة لسيناريوهات من هذا النوع بدت مستحيلة التحقّق، ثمّ صارت وقائع ملموسة عندما تغيّرت الظروف والمصالح والتقت إرادات اللاعبين الكبار؟

يعرف بشار الأسد أنّ أعداءه لا يشكّلون، في الوقت الراهن على الأقلّ، أي خطر داهم عليه وعلى النظام. المعارضة المسلّحة في الداخل ضعيفة ومحصورة في مناطق محدّدة، ومحكومة بتفاهمات القوى الفاعلة، وبخاصة الروس والأتراك

اللاعبون الكبار في سوريا كُثر. أميركيون وروس وإيرانيون وأتراك وإسرائيليون، لا مكان لبشّار الأسد بينهم، ولا كرسيّ له إلى طاولتهم. مكانه على مقاعد المتفرّجين، ولكن في المقصورة الرئاسية.

هو يعلم ذلك علم اليقين. يعرف أنّه لا يملك سلطة فعليّة خارج مساحة المكان الذي يقيم فيه، وأنّ ما يملكه من صلاحيّات لا يصل إلى ما يتمتّع به رئيس بلدية مدينة عربية كبرى، طبعاً باستثناء القدرة على المضيّ في أذيّة الشعب السوري وقهره وقتله وتهجيره. ويعرف أنّه ليس سوى واجهة وهميّة للسلطة الفعلية التي يتولّاها آخرون، وأنّ الشؤون الكبرى والجدّية المتعلّقة بكينونة سوريا، وعلاقتها مع محيطها، ودورها الإقليمي، وسيادتها على أرضها وثرواتها، يسيّرها نظام المصالح، المتقاربة أحياناً والمتنافرة كثيراً، بين إيران وروسيا.

يفهم جيّداً أنّ الكلمة الفصل في شؤون بلاده تأتي من قاعدة حميميم. لا يمانع في ذلك انطلاقاً من مقتضيات الوفاء لمن وقف معه وقت الشدّة. ألم تكد ثورة السوريين الأحرار أن تجرفه ونظامه لولا أن هبّ فلاديمير بوتين لنجدته بناءً على طلب الطيّب الذكر وناشر الاستقرار في العراق وبلاد الشام واليمن الحاج قاسم سليماني؟

يدرك تماماً أنّه يقف على ساقين من خشب تسندهما إيران وميليشياتها، مثل حزب الله والنجباء و”الزينبيون” و”الفاطميون” وعصائب أهل الحق. ويسرّه ما أنجزته هذه القوى المذهبية من تغييرات في النسيج الاجتماعي والواقع الديموغرافي في البلاد، وبخاصة في دمشق ومحيطها.

في المقابل، يعرف بشار الأسد أنّ أعداءه لا يشكّلون، في الوقت الراهن على الأقلّ، أي خطر داهم عليه وعلى النظام. المعارضة المسلّحة في الداخل ضعيفة ومحصورة في مناطق محدّدة، ومحكومة بتفاهمات القوى الفاعلة، وبخاصة الروس والأتراك. والمعارضة السياسية في الخارج منقسمة على نفسها ومشتّتة. وهي أضعف من أن تمثّل عامل ضغط فعليّاً عليه. أمّا العرب فقد خفّت حدّة خصومتهم له المعلنة، لا بل إنّ بعضهم أخذ يتقرّب إليه، انطلاقاً من الواقعية السياسية، وتحسّباً لأيّ مشهد جديد في المنطقة ينتج عن التجاذبات والمفاوضات الجارية في أكثر من اتجاه.

اعتبرت إيران أنّ هذه الانتخابات أتاحت للشعب السوري أن يخطو خطوة مهمّة نحو تقرير المصير وتحقيق الازدهار. كلام فارغ لا أحد يحاسب أحداً عليه. المهمّ أن يبقى الأسد لتبقى سوريا ساحة للنفوذ الإيراني

لا شكّ أنّ هذه الصورة أشعرته بالقوّة. مضى في الانتخابات المهزلة ليعلن نصراً يعرف هو ومؤيّدوه وخصومه والعالم أجمع أنّه نصر وهميّ. لا يهمّه كثيراً ما يُقال عن صدقيّة هذه العملية الانتخابية. مواقف كل الديموقراطيات الغربية منها تساوي صفراً، كما قال حين الإدلاء بصوته. المهمّ أن يرفع إشارة النصر المضاف إلى سلسلة انتصارات محور الممانعة التي لا تنتهي، وآخرها انتصار حماس المبين في غزّة.

هلّلت روسيا، واعتبرت أنّ الشعب السوري اقترع اقتراعاً حرّاً. همّها تعزيز نفوذها ودورها في سوريا استعداداً للوقت الذي يبدأ فيه رسم الخرائط الجديدة في الشرق الأوسط، من دون استبعاد وجهة النظر القائلة إنّ موسكو تراهن على فوز الأسد لتثبّت نوعاً من الاستقرار في سوريا يفتح الباب أمام إعادة الإعمار واحتمال حصولها على ديونها المتراكمة على النظام السوري.

بدورها، اعتبرت إيران أنّ هذه الانتخابات أتاحت للشعب السوري أن يخطو خطوة مهمّة نحو تقرير المصير وتحقيق الازدهار. كلام فارغ لا أحد يحاسب أحداً عليه. المهمّ أن يبقى الأسد لتبقى سوريا ساحة للنفوذ الإيراني، وورقة في يد إيران في مواجهتها مع الغرب، وركيزة سياسية محورية في تحالف الأقلّيات الممتدّ من طهران إلى بيروت.

ثمّ جاء خطاب النصر، فإذا بنا أمام أداء بالغ الأمانة لتقاليد المدرسة البعثية في إرسال الكلام “البلا” معنى، مع منسوب عال من الغطرسة الفارغة. أبلغنا بشار الأسد أنّ ما جرى في الانتخابات هو إعادة تعريف لمعنى الوطنية، ووصف الملايين من أبناء الشعب السوري بأنّهم ثيران وليسوا ثوّاراً. بدا وكأنّه، في مطلع نصف القرن الثاني من الحكم الأسدي لسوريا، يجدّد الحرب على ما تبقّى من سوريين هدر كرامتهم وحوّلهم كتلاً بشرية صامتة تجري وراء لقمة العيش.

لا يهمّ إذا أُقيم الاحتفال على كومة من ركام أو على جبل من جماجم. لا يهمّ تزوير إرادة خمسة ملايين سوري مهجّرين في الداخل، وسبعة ملايين منتشرين في أصقاع الأرض. المهمّ هو تثبيت المعادلة التي أطلقها في الأيام الأولى للثورة. إمّا الأسد وإمّا إحراق البلد.

لقد أظهرت الانتخابات الرئاسية السورية أنّها محطة لا قيمة لها في المشهد العام. ولم تأتِ بأيّ عنصر تغييري في الواقع القائم. خطاب النصر الوهميّ أكّد أنّ الأمور باقية على حالها، وأنّ المرحلة المقبلة لن تشهد أيّ تغيير في تعامل النظام مع ما تبقّى من سوريين في مناطق نفوذه. ستستمرّ الممارسات الأمنيّة على جاري العادة في سوريا الأسد، وكذلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي لا يملك النظام أيّاً من المقوّمات أو من عناصر القوّة لتغييرها. سيزداد الفقراء فقراً. ستبقى الطوابير أمام الأفران، وستطول أمام محطات الوقود، وستزداد ثروات المافيات المرتبطة بالنظام وبحلفائه في لبنان والقابضة على كلّ أنواع التجارة والتهريب.

إقرأ أيضاً: بوتوكس وكيماويّ: التجمُّل في وسط الدمار!

قال أيضاً خطابُ النصر للسوريين في الخارج أن يبقوا مع أحلامهم في المنافي، ويقتنعوا بإقامة مديدة حيث هم، لأنّ طريق العودة مقطوع حتى إشعار آخر. وبكلام أوضح، لا حاجة إليهم في “سوريا المفيدة” التي باتت أفضل من دونهم.

مرّة جديدة يبدو الشعب السوري وحده.. يئنّ وحده، وينزف وحده، ويجوع وحده، ولا مِن مُجير. أظهر تجديد ولاية الأسد أنّ محنة هذا الشعب ستطول، إلاّ إذا توصّل اللاعبون الكبار، سلماً أو حرباً، إلى رسم خرائط نفوذ جديدة. عندئذٍ يمكن أن نصحو صباحاً على خبر مفرِح للسوريين من عاصمة الأمويين.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…