اعتاد الكابتن عدنان الشرقي أن يخرج من الملاعب منتصراً، محمولاً على الأكتاف. هذه المرّة دخل إلى الملعب محمولاً على الأكتاف، في المباراة النهائية مع السرطان. ومن هناك كانت رحلته الأخيرة إلى جوار ربّه.
هو من آخر العمالقة. وكما يُقال إنّ فيروز سفيرتنا إلى النجوم، كان الشرقي سفيرنا إلى كرة القدم. ولم يكن مدرّبَ كرة قدم فحسب، بل هويّة. نعم، هو هويّة وعلم من أعلام الطريق الجديدة وكرة القدم، التي يشبهها بطيبته و”خلقه الضيقة”، ولكنته وطُرفته.
ذاك الرجل العصاميّ و”العسكري” الصارم، و”الطنبوز” لكن الصادق، صاحب اللسان السليط و”البذيء” في الملاعب أحياناً وعند الضرورة، لكن المهذّب واللبق مع الأصدقاء والجيران والمعارف والناس.
أن تدخل الطريق الجديدة وتسأل عن عدنان بكداش، فلن تجد من يعرف صاحب هذا الاسم، لكن يكفي أن تقول أين “الشرقي”؟ حتى تتعثّر بالمئات من أبناء المنطقة الذين سيهبّوا ليخبروك من هو الشرقي، وما هو تاريخه، وأين يسكن، وما هي الطرقات التي يسلكها ليصل إلى الملعب البلدي، وفي أيّ مسجد يصلّي الفروض الخمسة حاضراً، وعلى أيّ كرسي يجلس داخل المسجد، ومن هو اللحّام الذي يقصده بين الحين والآخر بـ”الروب” البنّيّ المقلّم (على طريقة أبو رياض)، معتمراً القبّعة التي لا تفارقه، فلا يكلّ عن ردّ التحيّة لكلّ من يصادفه في طريقه.
أذكر الكابتن عدنان منذ كنت طفلاً، يوم كان والدي المُغرم بنادي الأنصار والإداري فيه، يصطحبني معه إلى الملعب البلدي، (القديم وليس هذا الملعب الخرساني المقيت) لمواكبة التمارين. الحاج عدنان ذو الهيبة والكاريزما المخيفة دائماً هو أوّل الواصلين. يراقب دخول اللاعبين ويؤنّب المتأخّرين ويحرم المشاغبين من خوض المباريات، فيما الجمهور يتحلّق حول سياج الملعب البلدي القديم والمؤنس، يراقب التكتيكات والاستعدادات للمباريات.
تعلو الأصوات والصافرات من الداخل: “قرّب لهون”، “أنت وقاف هونيك”، “رجاع لورا”… الحاج عدنان يصدر الأوامر والتعليمات كمن يدير مناورة عسكرية، تمهيداً لخوض الحرب.
ذاك الرجل العصاميّ و”العسكري” الصارم، و”الطنبوز” لكن الصادق، صاحب اللسان السليط و”البذيء” في الملاعب أحياناً وعند الضرورة، لكن المهذّب واللبق مع الأصدقاء والجيران والمعارف والناس
خلال الحرب الفعلية التي عصفت بلبنان، كان الشرقي يردّد على مسامع أصدقائه أنّ اللبنانيين 3 فِرق: “فريق يموت في الحرب، وفريق يصيبه الجنون، وفريق يهاجر… وأنا ممّن يهاجرون”. لكنّه لم يفعل، وبقي هنا في لبنان. بقي في الطريق الجديدة التي أحبّته وأحبّها، فعاش فيها وتألّق وحصد الألقاب، ثمّ هرِمَ، وأصابه المرض، ووافته المنيّة، ودُفن فيها بعد صافرة نهاية “مباراة الحياة”. لم يهاجر، لكنّه استسلم لخيار ولديْه في الهجرة إلى كندا والمملكة العربية السعودية، وبقي هو هنا إلى جانب زوجته.
استصعب الشرقي الرحيل عن لبنان، على الرغم من الفرص والعروض التي أُغدقت عليه من فِرق كرويّة خارجية. اختار أن يبقى هنا حتى في حمأة الحرب الأهلية.
يروي أحد المقرّبين منه أنّه إبان الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت، هرب الشرقي مع زوجته وابنته عُلا إلى مدينة صور. فذهب أصدقاؤه ليطمئنّوا عنه ذات مرّة، فعلموا بالسرّ من زوجته عائشة أنّ عدنان حزينٌ، لا نفسَ له على الأكل، ويأبى أن يستحمّ منذ أيام. سألوه عن السبب، فقال لهم: “كيف أستحمّ بالماء، فيما أهلي في بيروت والطريق الجديدة محرومون من شربها بسبب الإسرائيليين؟”.
هذه أخلاق عدنان الشرقي، وهكذا كان يفكّر. فهو وطنيٌّ حتى العظم، ينبذ الطائفية. هو ابن المؤسسة العسكرية التي خدم في مدرستها الحربية مدرّباً عسكريّاً، ثمّ لجأ إلى مشفاها حيث وافته المنية.
بالأمس، خرجت الطريق الجديدة متحدّيةً إجراءات الوقاية من كورونا، لتودّع ابنها إلى مثواه الأخير، فاحتضنت جميع الشخصيات الكروية ومحبّي عدنان الشرقي. حجّ اللاعبون من كلّ الفرق، ومن كلّ المناطق، لملاقاة الحاج عدنان في الملعب البلدي، الذي تواصلت النداءات إلى بلدية بيروت لتسميته باسمه: “ستاد عدنان الشرقي”. مطلب حمل لواؤه أبناء المنطقة، وعلى رأسهم المسرحيّ و”النجماوي حتى العظم” زياد عيتاني، الذي كتب على صفحته في “فيسبوك” أنّ أبناء المنطقة لن ينتظروا تحرّك البلدية، وإنّما سيبادرون إلى تثبيت لوحة تحمل اسم الملعب الجديد عند مدخله.
التفّ مدخل الملعب البلدي بساحته الداخلية ودوّار المفتي حسن خالد بلافتات الرثاء، وبالأعلام اللبنانية وأعلام نادي الأنصار. حضر الآلاف من كل الأجيال الكروية، وكل الفِرق والمناطق والمشارب. حضرت وسائل الإعلام، واصطفّ السكّان على الشرفات ليودّعوا ابن المنطقة، وليلقوا النظرة الأخيرة على النعش الذي سُجّي فوق سجادة خضراء من العشب الاصطناعي.
النائب الأسبق سليم دياب بكى ملء عينيه. وانهار أمام عدسات الكاميرا وأسئلة الصحافيين كذلك أمين عام اتحاد كرة القدم السابق رهيف علامة، صديق طفولته منذ المقاعد الدراسية، ورفيق مسيرته الكروية.
استصعب الشرقي الرحيل عن لبنان، على الرغم من الفرص والعروض التي أُغدقت عليه من فِرق كرويّة خارجية. اختار أن يبقى هنا حتى في حمأة الحرب الأهلية
صلّت الجموع على الجثمان، ثمّ حملوه إلى مسجد الخاشقجي، حيث ووري في الثرى في مدافن الشهداء. أمّا الغائب الأبرز من بين اللاعبين و”قدامى الأنصار” فكان الكابتن جمال طه، الموجود حالياً في كوريا الجنوبية مع منتخب لبنان. قال طه لـ”أساس” في اتصال هاتفي: “تجمعني أنا والحاج مسيرة طويلة. هذا الرجل الذي خرّج أغلب نجوم لبنان في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، بنى عائلة كبيرة على مستوى الوطن، من بيروت حتى أقاصي عكار، ومن الساحل إلى البقاع. كل الناس يعرفون من هو فريق الأنصار، ويعود الفضل في ذلك إليه. وهذا نلمسه نحن إلى اليوم ونراه. كل هذا الانتشار صنعه عدنان الشرقي الذي استطاع أن يركّب هذه التوليفة الوطنية”.
تنهّد الكابتن جمال، ثمّ قال: “تُصاب بالأسف والحزن حينما تفقد أباً جمع كل هذه العائلة، وتحزن أكثر حينما ترى الدولة مُقصّرة في تكريم شخص قدّم للبنان الكثير من الألقاب، فلا يلقى دعماً منها ولا تكريماً. تاريخ لبنان الكروي حفره الشرقي بيديه، لكنّ المسؤولين في دولتنا يأخذون الأمور دوماً باستخفاف. أعزّي عائلة الحاج عدنان الكبيرة في كل لبنان، وأعزّي عائلته الصغيرة، الحاجّة وابنه محمد وابنته عُلا… رحمه الله”.
إقرأ أيضاً: عدنان الشرقي: الأنصاريّ العتيق… من الطريق الجديدة إلى غينيس
أبى لاعب الجناح الأيمن في نادي الأنصار محمد مسلماني أن يتحدّث، وفضّل أن يكتب رثاء ويرسله، فاعتبر أنّ خبر رحيل الكابتن عدنان “جلب الحزن إلى قلوبنا. كان الأب والقدوة والمدرّب الناجح بمسيرته، صاحب الكاريزما والشخصية المحبّبة إلى قلوب الجميع، الكابتن العصبيّ إلى حدود الفوز دوماً بكل المباريات، وذا القلب الطيّب الذي جمع كل لبنان اليوم، فكانت جنازته عابرة لكل الأندية ولكل الطوائف.. رحمه الله” .
أمّا كابتن الأنصار عمر إدلبي فدعا للحاج عدنان بالرحمة، وقال: “هذا قائد مسيرة نادي الأنصار ولبنان. عمل على مدى 60 سنة من دون مقابل. يصعب أن تجد شخصاً مثله، ولن يحلّ مكانه أحدٌ يشبهه في خلال الـ50 أو الـ100 سنة القادمة. حقّق الانتصارات والألقاب لفريقه وللبنان. ومهما قلنا وتكلّمنا عنه سيبقى قليلاً. كانت مسيرته طويلة جداً، وخصوصاً معي أنا الذي عايشته لسنوات في لبنان وخلال الأسفار. هو مدرّب تاريخي وقائد عظيم”.
فقدت الطريق الجديدة ولداً من “أولاد الحيّ”، الذين غنّاهم أحمد قعبور.
رحل عدنان الشرقي… رحل أيقونة كرة القدم اللبنانيّة.