حمل العدد الأخير من مجلة “إيكونوميست” البريطانية عنوان “دولتان أم دولة؟”، وتطرّق في افتتاحيّته وفي موضوعه الرئيس إلى جوانب القضية الفلسطينية كافة.
وكان لافتاً أن الافتتاحية وموضوع الغلاف يعلنان بما لا يدع مجالاً للشكّ، تغيّراً في المزاج الإعلامي، وفي الرأي العام البريطاني، شبيهاً بالتغيّر الذي بدا واضحاً في الصفحة الأولى من “نيويورك تايمز”، التي نشرت صور 66 طفلاً قتلتهم إسرائيل في حربها الأخيرة على غزّة، ومعهم طفلان إسرائيليان فقط.
“إيكونوميست” تعلن صراحةً أنّ إسرائيل هي الظالمة، وأنّ الفلسطينيين يتعرّضون لسياسة فصل عنصري، ولسياسة توسعية إسرائيلية خارج القانون الدولي، منذ العام 1967.
في هذا الجزء الثاني من الترجمة، أرقام وإحصاءات تثبت أنّ إسرائيل تخنق الفلسطينيين وتمارس سياسة الفصل العنصري معهم وعليهم.
يبدو أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يريد حتى محاولة حلّ إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد أدّى، في أحسن الأحوال، دوراً ثانوياً في التمويه على وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل عندما تواجها في وقت سابق من هذا الشهر. ثمّ أرسل أنطوني بلينكن، وزير خارجيته، من أجل جولة من المحادثات. وكان التركيز على تقديم المعونة لغزّة. ولم تكن عملية السلام على جدول الأعمال.
في عام 1968، أرسل أحد أسلاف بلينكن، دين راسك، مذكّرة حادّة إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن. وأشار إلى تقارير تفيد بأنّ إسرائيل تقيم مستوطنات مدنيّة في الضفة الغربية المحتلّة حديثا. وكتب راسك أنّ هذا لا ينتهك اتفاقات جنيف فحسب، بل “يبيّن أيضاً، بما لا مجال للشكّ فيه، بأنّ إسرائيل لا تنوي التوصّل إلى تسوية تنطوي على الانسحاب من تلك المناطق”.
واليوم يعيش أكثر من 440 ألف إسرائيلي في مستوطنات الضفة الغربية. وهو رقم ازداد أربعة أضعاف تقريباً منذ توقيع اتفاقات أوسلو. ولم يفعل العالم شيئاً لوقف نموها. وقد تقبّل الدبلوماسيون الوهم بأنّ المستوطنات مؤقّتة، وهو ادّعاء كذّبته مليارات الشيكلات المستثمرة في المنازل والبنية التحتية على مدى عقود. ويعيش بعض المستوطنين في الضفة الغربية منذ جيلين.
ويصرّ المفاوضون على أن الكتل الاستيطانية الكبيرة، التي تضمّ حوالي ثلاثة أرباع المستوطنين فى الضفة الغربية، لا تشكّل عقبة أمام التوصّل إلى اتفاق سلام. ومع ذلك، تقع واحدة من أكبرها، أرييل، في منتصف الطريق تقريباً في عرض الضفة الغربية. وتنحت تلك الكتل شرائطَ وثقوباً في مخطط الدولة الفلسطينية. ويعيش أكثر من مئة ألف إسرائيلي خارجها، في مجتمعات معزولة تحتاج إلى الإجلاء – أي أكثر من 12 ضعف العدد الذي أُزيل من غزّة خلال فكّ ارتباط إسرائيل بتلك الأراضي في عام 2005.
اليوم يعيش أكثر من 440 ألف إسرائيلي في مستوطنات الضفة الغربية. وهو رقم ازداد أربعة أضعاف تقريباً منذ توقيع اتفاقات أوسلو. ولم يفعل العالم شيئاً لوقف نموها
فالمستوطنون يتمتّعون بمستوى من السلطة السياسية، اليوم، لم يتراجعوا عنه في ذلك الوقت. خمسة أحزاب في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) ملتزمة أيديولوجيّاً بتوسيع المستوطنات في عمق الضفة الغربية. وهي معاً تشغل 56 مقعداً، أي تحتاج إلى خمسة مقاعد لتحصل على الأغلبية. حتى أعضاء حزب العمل حثّوا إسرائيل على ضمّ قطع كبيرة من الضفة الغربية، وإنهاء وهم الاستيطان “المؤقّت”. وأظهر استطلاع للرأي، أجراه “معهد الديموقراطية الإسرائيلي”، العام الماضي، أنّ 30% فقط من الإسرائيليين يعارضون القيام بذلك. وقد سخر المستَطلَعون على نطاق واسع من خطة السلام التي أطلقها ترامب.
والقدس الآن محاطة بمستوطنات تضمّ أكثر من 200 ألف إسرائيلي، ممّا يجعل من المستحيل منح الفلسطينيين عاصمة بجوار هذه المستوطنات. ويصعب ربط النصفين الشمالي والجنوبي من الضفة الغربية. وتستخدم الجماعات اليمينية الإسرائيلية المحاكم في محاولة لطرد الفلسطينيين من منازلهم في الأحياء ذات الأغلبية العربية. ولا تخجل حركة المستوطنين من أهدافها. وهي تطالب بكل تلّة في الضفة الغربية. وكل منزل تستولي عليه الحركة في القدس الشرقية، يجعل من الصعب على إسرائيل التنازل عن الأراضي المحتلّة في اتفاق نهائي مع الفلسطينيين.
وأظهر استطلاع للرأي، أجراه الفلسطينيون في آذار، أنّ 40% فقط لا يزالون يؤيّدون حلّ الدولتين، بعدما كانت النسبة 51% في عام 2016، و56% في عام 2011. انخفضت نسبة التأييد بين اليهود الإسرائيليين من 53% في عام 2016 إلى 42% في العام الماضي. قبل خمس سنوات، أيّد 82% من العرب الإسرائيليين الفكرة، و12% من العرب الإسرائيليين كانوا قد أعلنوا رفضهم. واليوم 59% فقط يؤيّدونها.
القدس الآن محاطة بمستوطنات تضمّ أكثر من 200 ألف إسرائيلي، ممّا يجعل من المستحيل منح الفلسطينيين عاصمة بجوار هذه المستوطنات
يحمل العرب الإسرائيليون الجنسية الكاملة. احتفظ “قانون الدولة القومية”، الذي صدر في عام 2018، بحقّ “تقرير المصير الوطني” لليهود وحدهم. تبلغ نسبة الفقر بين العرب 36%، وهو ضعف معدّل الفقر بين اليهود. وكان متوسط دخلهم الشهري في عام 2018 أقلّ بنسبة 34% من نظيره الإسرائيلي. وقد أيّدت المحكمة العليا حقّ المدن الصغيرة في فحص السكان للتأكّد من “الملاءمة الاجتماعية”، وهي ممارسة استخدمت لمنع العرب من الانتقال إليها.
إنّ الفلسطينيين في القدس الشرقية موجودون في نوع من النسيان. ويرفض معظمهم السعي إلى الحصول على الجنسية الإسرائيلية، في انتظار حلّ قد لا يأتي أبداً. وهم يخاطرون بفقدان بطاقات إقامتهم الإسرائيلية إذا غادروا المدينة. وقد أُلغيَت بطاقات أكثر من 14 ألف شخص منذ عام 1967.
إقرأ أيضاً: بريطانيا تتغيّر (1/2): إسرائيل غدرت أوسلو.. لتوسّع احتلال فلسطين
ولا يمكن لفلسطيني مولود على بعد بضعة كيلومترات إلى الشمال، في رام الله، أن يزور القدس بدون تصريح. وتقتصر الحياة في الضفة الغربية، إلى حدّ كبير، على ثلث أراضيها تحت قدر من السيطرة الفلسطينية. وتقيّد مئات نقاط التفتيش حريّة التنقّل.
ثمّ هناك غزّة. لا تسمح إسرائيل إلا لفئات مختارة من الفلسطينيين بعبور حدودها، في حين تسمح مصر لبضعة آلاف من المسافرين شهرياً. نصف سكان غزّة تقريباً عاطلون عن العمل، و80% بحاجة إلى مساعدة من منظمات الإغاثة للبقاء على قيد الحياة.
هنا وهناك في إسرائيل يرى المرء عبارة على الجدران باللغتين العبرية والعربية: ” eretz aheret: ليس لدينا بلد آخر”. ويجب على العرب واليهود أن يقرّروا كيفيّة تقاسم الارض. لا يستطيع العالم أن يملي حلّاً. وسيتطلّب ذلك عملية سلام جديدة، عملية حقيقية، ذات شرعية ودعم شعبي من كلا الجانبين. ومن الصعب تصوّر أنّ مثل هذه العملية قد تنبت قريباً من هذه التربة المسمومة. لكنّ الاعتراف بالواقع سيكون بداية. ما جاء من قبل قد فشل، وما سيأتي بعد ذلك سوف يحتاج إلى الحديث أقلّ عن التقسيم وأكثر عن التكافؤ”.