مربكٌ التعاطي مع المشهد. أزمة بنزين خانقة. الناس عالقون في طوابير على محطات البنزين، و”هادي بروداكشن” قرّر انتهاز الفرصة، على جري عادة كثير من اللبنانيين، لقلب المصائب إلى “فوائد”. فعل الأمر نفسه أحد الأفران الذي وسّع خدمة الديليفري لديه لتوصيل المناقيش إلى الناس العالقين في سياراتهم. ليست مزحة ولا نكتة. هذا بزنس، واقتناص للفرص. يسوّق هادي لشركته للإنتاج الفنّي. يريد زبائن للأعراس، فيحوّل طوابير البنزين إلى “عرس وطني”. دبكة لبنانية على المحطة. و”المحطة” هنا ليست مسرحية من مسرحيات الأخوين الرحباني. بل هي محطة بنزين في عام 2021، خالية من البنزين، أو تقدّم الخدمة بالتقطير لخطّ طويل من الذلّ يعلق فيه الناس يوميّاً ليحصلوا على حصّتهم من المادة التي تخوّلهم استخدام سياراتهم في بلاد لا وجود فيها لنقل مشترك حكومي، ولا قطارات ولا ميترو، إلا في المخيال الدجّال لجبران باسيل، الذي سوّق ذات يوم للبنان بلداً نفطياً، وحكى لابنه حكاية عن قطار في حلم يربط بيروت بالبترون، فيتبيّن أنّ الكذبة تشبه “جبال الصوان” في مسرحيات الرحابنة، التي سخر منها زياد الرحباني في مسرحية “شي فاشل”. حينذاك عبّر زياد، عبر شخصية “أبو الزلف” (أدّى دوره الراحل زياد أبو عبسي)، عن تمرّده على أكاذيب “الجرّة” و”الأرزة” و”جبال الصوان” و”الدبكة” و”جرن الكبّة” وسواها من عناصر الكذبة الرحبانية الكبرى القائمة على وطن متخيَّل لا أساس له في يوميّات اللبنانيين.
وهذا الوطن الرحباني يشبه تخيّلات جبران باسيل. يشبه مصطلحات التيار الوطني الحر وحلفائه. يشبه باعة الوهم الذين يمعنون في عرضه على أساس أنّه “مطلوب” في سوق السياسة اللبنانية. ولا يزال هناك من الجماهير مَن يشتري بضاعة جبران. ثمّة جمهور لا بأس به يتعامل مع الأزمة على أنّها عابرة، وعلى أنّ ما يحدث ليس سوى “غيمة صيف” وتمرّ. وهؤلاء ينتظرون السمك (والنفط) الذي باعهم إيّاه جبران في البحر، فيما يلمسون لمس اليد اختفاء النفط من محطّات البنزين، وارتفاع معدّلات الذلّ في كل مفاصل الحياة اليومية اللبنانية، من الصيدليات إلى السوبرماركات والمستشفيات وسواها. ويحاول باعة الوهم من حلفاء جبران أن يسوّقوا للطوابير بأنّها فعل “حضاري”، وأنّها دليل “عزّ وكرامة وتضحية” في ظلّ الحصار الاقتصادي. ومن هنا تأتي الدبكة على محطّات البنزين لتحوّل الذلّ إلى فولكلور، لإدخاله في عمق الثقافة اللبنانية اليومية، ولجعل الناس أكثر قابلية لهضمه.
هذا الوطن الرحباني يشبه تخيّلات جبران باسيل. يشبه مصطلحات التيار الوطني الحر وحلفائه. يشبه باعة الوهم الذين يمعنون في عرضه على أساس أنّه “مطلوب” في سوق السياسة اللبنانية. ولا يزال هناك من الجماهير مَن يشتري بضاعة جبران
“لو هالدنيي سألت مينك قلّن إنّك لبناني”، تقول الأغنية التي دبكت عليها فرقة “هادي بروداكشن”. وتكمل الأغنية “بطل السلم وبطل الحرب، همزة وصل الشرق الغرب”. هذه هي الثقافة المرتجاة. بطولات على مدّ عينك والنظر. بطولات أطول من طوابير الذلّ، وافتخار بالانهيار، وتحويله إلى “انتصار”. حصل الأمر نفسه في انفجار المرفأ. وحصل في محاربة كورونا. “دبك” وزير الصحة في عزّ الحرب على كورونا، معلناً انتصاراً مبكراً، ثمّ اختنقت المستشفيات بالمرضى، وصارت أعداد الموتى ترتفع يوميّاً لفترة طويلة قبل أن تتراجع بفعل التلقيح والمناعة المجتمعية التي بدأت تتشكّل عبر عدد الإصابات الكبير غير المسجّل. شيء أشبه بهذا النوع من الانتصارات يُراد له أن يتحقّق. مناعة قطيع ضد الانهيار، وضد رفع الدعم. فليدبك الناس على محطّات البنزين. وليرقصوا من الألم على أبواب المستشفيات. سوف يعتادون طوابيرَ الذلّ، ويشكّلون مناعة ضدها.
إقرأ أيضاً: على طريق بعبدا: استثمار واعد… لأطرافنا المبتورة
أحد أصدقائي حضر من باريس لتمضية بضعة أيام مع عائلته بعدما كان قد ابتعد عنهم لسنوات بسبب كورونا. وصل إلى لبنان وعلق على محطة بنزين. وعندما وصل دوره واعترض على الاستنسابية في التعبئة للمحسوبين، بعدما رأى أمامه كيف يقوم الموظف بتفويل سيارات، ويملأ أخرى بالحدّ المسموح، ضربوه. هجمت عليه مجموعة، و”دبكت بنيعه”، كما يقول ساخراً. ولم يستطع فعل شيء. لم يتقدّم بشكوى لأنّ والده طلب إليه أن يحلّها حبّيّاً “وبلا وجعة الراس”. نال صديقي قسطه من الدبكة على محطات البنزين. وعاد إلى فرنسا، وأوّل ما فعله كان إرسال صورته وهو يملأ خزان سيارته بالبنزين في فرنسا، مع عبارة مقتضبة: “هنيئاً لكم الفولكلور!”. سألته: “قِلتلّن إنّك لبناني؟”. فأرسل لي طابوراً طويلاً من الوجوه الضاحكة!