قبل يومين أعلن نائب القوات اللبنانية القاضي جورج عقيص أنّ حزبه يستعدّ للانتخابات النيابية المقبلة، وأنّ إحصاءاته تشير إلى أنّ “القوات ستكون الكتلة المسيحية الكبرى”.
فماذا يعني هذا الكلام؟
يجيب عقيص أنّ “كلامه يعني أوّلاً أنّ حزب الله سيخسر المظلّة المسيحية عبر خسارة حليفه للأكثرية المسيحية. ويعني أنّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سيكون المرشّح الأوّل لرئاسة الجمهورية”.
يدرك حزب الله خطورة هذا الكلام، لا سيّما أنّه سبق أن قام باستطلاعاته الخاصّة، ولمس حجم التغيير الحاصل في البيئة المسيحية لجهة تراجع شعبية حليفه الأساسي، التيار الوطني الحرّ، الذي بنى معه ورقة التفاهم منذ خمسة عشر عاماً. ويدرك أنّ حليفه الثاني، سليبمان فرنجية، محصور تمثيله المباشر في زغرتا وإهدن.
فالحزب الذي ينسج تحالفاً مع حزبين مسيحيّين يتخاصمان في السياسة، وهما التيار الوطني الحر وتيار المردة، سبق أن بدأ ورشة العمل على الساحة المسيحية سعياً إلى تجنّب خسارة حلفائه للأكثرية المسيحية النيابية. ودعا حليفه الاستراتيجي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية إلى بذل الجهود واستنهاض حضوره مسيحياً، بكل الطرق المتاحة. ولعلّ أقصر الطرق إلى قلوب المسيحيين، خصوصاً غير الحزبيين منهم، تمرّ بطريق البطريركية المارونية، مهما كانت عناوين مشروعها وطرحها. ففرنجية، الذي ردّد يوماً أنصاره: “إنت البطرك يا سليمان”، أيّام البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، بسبب ما شاب علاقته ببكركي من اختلافات في الاتجاهات، يعاود التأكيد اليوم من الصرح الماروني أنّ بكركي هي “مرجعيّته الروحية الأولى والوحيدة”.
يدرك حزب الله خطورة هذا الكلام، لا سيّما أنّه سبق أن قام باستطلاعاته الخاصّة، ولمس حجم التغيير الحاصل في البيئة المسيحية لجهة تراجع شعبية حليفه الأساسي، التيار الوطني الحرّ، الذي بنى معه ورقة التفاهم منذ خمسة عشر عاماً
ليس تفصيلاً أن يصدر هذا الكلام عمّن لم يتقاطع يوماً في السياسة مع الصرح البطريركي، وأن يعلن أنّه تحت عباءته. يحتاج الأمر إلى التأمّل قليلاً في حرص لفرنجية على توثيق أواصر العلاقة مع بكركي، قبل أقلّ من عام على الانتخابات النيابية، ولا سيّما أنّ الحزب يحتاج إلى الكتلة النيابية المسيحية، وأنّ ملامح تراجع التيار الوطني الحر باتت مقروءة من الجميع. لذلك لن يكون فرنجية بعيداً عن بكركي، خصوصاً مع محاولته تفهّم هواجسها، واستطراداً هواجس المسيحيين، بالقول في مقابلته الأخيرة إنّ مرجعيّته الروحية الأولى تتمثّل في محور المقاومة، مع كل أركانه الإقليميين، وأن يرفض في الوقت نفسه أن يتحوّل لبنان إلى إيران جديدة.
في المقابل، سبق باسيل فرنجية بخطوات وسنوات، حين بدأ بطرح موضوع التمايز مع حزب الله في الاستراتيجيات. في الداخل، دأب باسيل على التذكير بأنّ المقاومة والفساد لا يستقيمان. وكان القريب منه ناجي حايك حاضراً دوماً ليقول كلاماً يؤدّي إلى الخصومة مع حزب الله، لإرضاء الشارع المسيحي المتحسّس من علاقة التيار بالحزب.
وعلى مستوى الإقليم، أبدى باسيل أكثر من مرّة وفي أكثر من مناسبة تمسّكه بحلّ الدولتين للقضية الفلسطينية، وفقاً للمبادرة العربية للسلام عام 2002. كذلك قال لقناة “الميادين” إنّه مع أن تعيش إسرائيل “بسلام”. إذ استشعر منذ سنين الخشية المسيحية من التبعية الكاملة لحزب الله. وسعى إلى خلق التوازن بين الوجدان المسيحي من جهة، والحلف مع حزب الله من جهة أخرى. فنجح حيناً وفشل أحياناً أخرى.
يفسّر الكثير مسار باسيل المتمايز في قضية الصراع مع إسرائيل، بدءاً من تأكيد فشل تسويق مشروع حزب الله بالكامل لدى المسيحيين. فالمسيحيون يتّفقون على مبدأ “تحرير لبنان” فقط، لا التحوّل إلى صندوق بريد إقليمي، والانخراط في حروب إقليمية، في سوريا والعراق واليمن، واستعداء الدول العربية.
يهدف حزب الله من تشجيع فرنجية على الانفتاح على البطريركية المارونية، ولو بعناوينها الخلافية كالحياد وحصر السلاح بالدولة وغيرهما، إلى قطع الطريق أمام تقدّم القوات مسيحيّاً، ومحاولة ملاقاة باسيل في الساحة المسيحية. فحتى الساعة لا يزال باسيل متقدّماً بأشواط على فرنجية، الذي لم يبذل مجهوداً كافياً لتوسيع رقعة تمثيله خارج الشمال، في الوقت الذي عمل باسيل على توطيد حضوره في الأطراف المسيحية حتى ولو أنّه لم يستطع تحقيق تأثير كبير. وعليه، يحثّ حزب الله حليفيْه على تحصين تمثيلهما. لا يهمّ إذا كان ثمن ذلك بعض المواقف المتمايزة عن حزب الله في الداخل أو في الإقليم. يتفهّم الحزب جيّداً مواقف باسيل، ويجد لها أسبابها الموجبة في سياقات مختلفة. فالأهمّ بالنسبة إليه هو أن تحاكي هذه المواقف وجدان المسيحيين للمحافظة على أوسع تمثيل نيابي حليف.
سبق باسيل فرنجية بخطوات وسنوات، حين بدأ بطرح موضوع التمايز مع حزب الله في الاستراتيجيات. في الداخل، دأب باسيل على التذكير بأنّ المقاومة والفساد لا يستقيمان. وكان القريب منه ناجي حايك حاضراً دوماً ليقول كلاماً يؤدّي إلى الخصومة
ليست هذه المحاولة مضمونة النتائج للرجلين. ففرنجية طالما فاخر بارتباطه السياسي بمحور المقاومة، وبصداقته مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي بدأت تفتح له الأبواب العربية. وباسيل سبق أن استخدم ورقة التمايز عن حليفه عدّة مرّات. وفي الحالتين لم يعد باستطاعة أيٍّ منهما تجنّب تداعيات خياراتهما على الساحة المسيحية، ولكن بإمكانهما أن يعتمدا سياسة الحدّ من الخسائر لتطويق سعي جعجع إلى الأكثرية النيابية.
إقرأ أيضاً: ذكرى الانسحاب الإسرائيليّ… وانتصار الحزب على لبنان
في المقابل يحسن رئيس حزب القوات اللعب على تناقضات أخصامه، محاكياً ساحته الانتخابية المأزومة سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. يعرف كيف يختار معاركه الانتخابية تحت عنوان بناء الدولة والسيادة. يقارب الملفّات الداخلية بدقّة بالغة، محافظاً على ما يعتبره “صدقيّة” أمام جمهوره مقابل ابتعاده عن موقع القوات اللبنانية في الحرب اللبنانية، وتحديداً علاقتها مع إسرائيل.
في كلمته بعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار 2000، كتب رئيس الجمهورية ميشال عون من منفاه الفرنسي رسالة بعنوان “متى التحرير؟”، قال فيها: “أن نفرح بخروج الإسرائيلي أو بطرده من الجنوب، فهذا شيء قد استحقّ، ولكن أن نعيّد لتحريره فهذا شيء مبكر، لأنّه انضم إلى وطن ما زال فاقد السيادة”.
وهذه “السيادة” لا تزال مفقودة لدى المسيحيين، لأنّ الانسحاب السوري لم يُستبدل به بسط السيادة، بل سلطة الحزب الأوّل عربياً الحليف للإيراني.