التقاطع الإيراني السوري، على الرغم مما بين النظامين من اختلاف جدّيّ على فكرة التسوية مع إسرائيل، وفّر الازدهار لتجربة حزب الله القتالية في التسعينيات، التي اكتسبت جدارة أكبر فأكبر من حرب 1993 إلى حرب 1996. وفي الوقت نفسه، كان الانسحاب من المنظار الإسرائيلي يفصح عن نيّته الفصلَ بين إيران وسوريا، من خلال إقفال الجبهة جنوب لبنان، وإفقاد سوريا قدرتها على تحسين شروطها التفاوضية.
لا يعني ذلك أبداً أنّ ما دفع إلى الانسحاب الإسرائيلي لم تكن الخسائر، التي كان يتكبّدها المحتلّ في الشريط الحدودي، وتضعضع الميليشيا المتعاونة مع إسرائيل. لكن إسرائيل رأت، في الوقت نفسه، أنّ الانسحاب يجعل حزب الله على تماس مباشر مع مستوطنات شمال الجليل، لكنّه يفقده في المقابل ورقة المفاوض السوري. طبعاً، هذا يظهر أنّ إسرائيل لم تكن تريد إجراء أي انسحاب فعلي من هضبة الجولان حتى بعد خروج الليكود مجدّداً من الحكم، وعودة حزب العمل مع إيهود باراك، وأنّ الحكومات المتعاقبة في إسرائيل بعد اغتيال رابين، بدءاً من شمعون بيريز نفسه، كانت تعمل بشكل مناقض تماماً لمبدأ الأرض مقابل السلام.
لم يعد ينطلق النقاش حول تحرير سنة 2000 من ارتباط مسار تحرير الجنوب بالتقاطع بين إيران، التي لا تريد التسوية، وبين سوريا التي تريدها على أساس عودة الجولان بالكامل. ولم يعد ينطلق من كون إسرائيل تريد بشكل أساسي التملّص من أيّ التزام بالانسحاب من الجولان، حتّى التقدم الحاصل في عهد حكومة رابين.
ولو لم يكن من الممكن اختزال كلّ النقاش في مفارقة هذا التقاطع بين سوريا وايران الذي وفّر الأرضية لتكثيف المواجهة التي قادها حزب الله ضدّ الاحتلال، وفي حاجة إسرائيل إلى الفصل بين سوريا وإيران، (قبل أن يُكتشَف السبيل لإنقاذ هذا الربط من خلال موضوع مزارع شبعا)، فإنّ النظر في هذا التقاطع وحصيلته يبقى أساسياً.
إسرائيل رأت، في الوقت نفسه، أنّ الانسحاب يجعل حزب الله على تماس مباشر مع مستوطنات شمال الجليل، لكنّه يفقده في المقابل ورقة المفاوض السوري
بداية، لم يكن هذا التقاطع تقاطعاً ثنائياً، بل كان ثلاثياً، لأنّه في مقابل إلغاء سوريا لمسار لبناني كان قائماً في الأساس ضمن عملية السلام المدريديّة، فإنّ “تفاهم نيسان” شكل محاولة مزدوجة: من جهة، أطَّر مساحة الصراع بين حزب الله والاحتلال، الأمر الذي سرّع باقتضاء الانسحاب. ومن جهة ثانية، حصل حزب الله على دعم اللبنانيين الآخرين بشكل أوسع في فترة 1996 – 2000، قبل أن يكتشفوا سريعاً، بعد التحرير، أنّ الأمور ليست بسهولة الانتقال إلى سرديّة أحلام ورديّة وطنية جامعة. فبعد التحرير، كان إصرار حزب الله على الاحتفاظ بسلاحه، لكن ما تبدّل هو أنّ هذا السلاح، الذي ارتبط بتقاطع إيراني سوري، بين نظام ضد التسوية ونظام مع التسوية بشروطه، دخل، وأدخل اللبنانيين معه، في مرحلة جديدة، في إثر الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وانفجار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية عند بلوغها طور الوضع النهائي، ثمّ السبات الطويل للمسار السوري الإسرائيلي، الذي زادت من تعقيداته إغارة إسرائيل على سوريا نفسها، عام 2003 ، في عين الصاحب، ثمّ بعد ذلك ببضع سنوات، تدمير ما اعتبر مفاعلاً نووياً في دير الزور.
لم يكد يتحرر جنوب لبنان، حتّى رحل حافظ الأسد في سوريا، وانطلقت معركة تحرير لبنان من الوصاية السورية في لبنان، ودخلنا في طور جديد من الأزمة اللبنانية. فتحرير الجنوب أوجد سرديتين.
– سردية الممانعة: السلاح الذي أثبت فعاليته ينبغي الحفاظ عليه.
– وسردية الاستقلالوية اللبنانية: تحرير الجنوب يسمح بتدشين معركة تحرير لبنان من الوصاية السورية.
وما بين تحرير أيار 2000 وبيان المطارنة الموارنة في أيلول من ذلك العام، كان اللبنانيون يطوون عقد التسعينيات. في أيامه كانوا يعانون الأمرين من الوصاية السورية لكنّهم ما كانوا يدرون ما الذي يحضره لهم القرن التالي بعد، خصوصاً بعد جلاء الوصاية السورية.
لم يكد يتحرر جنوب لبنان، حتّى رحل حافظ الأسد في سوريا، وانطلقت معركة تحرير لبنان من الوصاية السورية في لبنان، ودخلنا في طور جديد من الأزمة اللبنانية. فتحرير الجنوب أوجد سرديتين
لم يكن التحرير ممكناً بالشكل الذي تحقّق في أيار 2000 لولا هذا التقاطع بين متناقضات. بين بين تفاهم نيسان الذي يحمل إسهاماً أساسياً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبين مقاومة مدعومة من إيران معادية لفكرة التسوية العربية الإسرائيلية من أساسها، وبين نظام سوري منخرط في التسوية بشكل أكثر تحوّطاً من المفاوض الفلسطيني. إنّما بشكل معتمد إلى أقصى حدّ على سيطرته على لبنان من جهة، وعلى مقاومة “حزب الله” المعادية للتسوية.
تحرير الجنوب ثم رحيل حافظ الأسد فتحا الطريق لأخذ الكنيسة المارونية زمام مبادرة استعادة السيادة بطرد الجيش السوري من لبنان. وشيئا فشيئا تنامى ائتلاف إسلامي مسيحي واسع يرمي الى ذلك بلغات ازدادت تقارباً من بعضها البعض مع الوقت. وتفاءل دعاة السيادة حيناً مع إمكانية التوصل مع حزب تحرير الجنوب إلى كلمة سواء، وتشاءموا أحياناً أخرى، قبل أن يحكم التشاؤم المطلق العلاقة.
إقرأ أيضاً: تحرير الجنوب (2): خرافة “لبننة” الحزب… والاستقلال الثاني
فمع طيّ صفحة عملية السلام مع سوريا، والتنكّر لمرجعية مدريد، لم تعد مقاومة حزب الله الرافضة للتسوية مؤطرة ضمن مصالح قوة إقليمية مؤيدة للتسوية، تريد أن ترفع سقفها فيها، وما ظنّ لبنانيون كثرٌ أنّه تهمة يتهمون نظام الأسد بها، كان في الوقت نفسه الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُقرّ له فيه باللإيجابية: أنّه أطّر فريقاً معادياً للتسوية، ضمن بحثه هو عن رفع حظوظه فيها.
ما حصل بعدها أنّ هذا السلاح حين لم يعد مرتبطاً بهذا التأطير، تعمّقت الفجوة اللأهلية في لبنان حوله بعد أكثر، وصارت المشكلة مشكلتين: أوّلاً هذا السلاح بعد التحرير وماذا يبقى لمفهوم الدولة في ظلّه، والانقسام الأهلي العميق حول السلاح، وثانياً: ماذا يبقى لفكرة لبنان نفسها طالما بقي انقساماً مستعصياً على كل مقاربة.