قدر السُنّة في لبنان دائماً أن يُخيَّروا بين احتلالين، وقرارهم دوماً وأبداً هو الاستقلال والحرية والسيادة. قرار دفعوا من أجله غالي الأثمان. الاغتيال لاحق زعماءهم عبر السنوات منذ الاستقلال. في 16 تموز 1950، أُطلقت على رياض الصلح رصاصات الغدر خلال زيارته العاصمة الأردنية عمّان من حزب هنّأه رئيس البلاد في ذكرى التحرير منذ عدّة أيّام.
في 16 أيار 1989 فُجّر موكب المفتي حسن خالد بمئات الكيلوغرامات من المتفجّرات. وقبله في 7 تشرين الأول عام 1986 أُطلق النار على العلاّمة الشيخ صبحي الصالح فسقط مضرّجاً بدمائه في ساقية الجنزير، ليس بعيداً من المسجد ومحرابه، حيث كان يصلّي لربّه أن يحفظ لبنان.
يستمرّ المسلسل. اغتيل رشيد كرامي، في 1 حزيران 1987 في طائرة الهليكوبتر، وحده دون غيره من رفاق الرحلة المشؤومة التي كانت باتجاه بيروت من شمال لبنان. محاولة اغتيال الرئيس سليم حص وهو في طريقه لاصطحاب المفتي إلى صلاة العيد في منطقة الروشة. نواصل.. اغتيل رفيق الحريري في 14 شباط 2005 بطنٍّ من المتفجّرات، ثمّ التحق به وليد عيدو في حزيران 2007، وبعده وسام الحسن في تشرين الأول 2012، فمحمد شطح في 27 تشرين الثاني 2013.
أمّا النفي إلى خارج البلاد فله عند السُنّة قصص وجولات. للازدياد بالمعرفة، راجعوا مسيرة تقيّ الدين الصلح وصائب سلام، واسألوا عنهما باريس ومقاهيها وجنيف وبحيرتها، أو اسألوا الذين لا يزالون على قيد الحياة من نهاد المشنوق الذي عاش النفي أكثر من مرّة، وصولاً إلى إبراهيم قليلات.
السُنّة لا يعترفون بأبٍ راعٍ لوطنهم ولا بأمٍّ حنون، ولا بفقيهٍ وليّ هذا الزمان. هم دائماً وأبداً على مثال تلك المرأة العظيمة التي وقفت بوجه خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب معترضةً على تخفيضه للمهور، فأجابها الفاروق بشجاعةٍ ونبلٍ من على المنبر: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”، وشعارهم: “لا طاعة لعبد في معصية الخالق”، والعيش بكرامة وأمان.
قدر السُنّة في لبنان دائماً أن يُخيَّروا بين احتلالين، وقرارهم دوماً وأبداً هو الاستقلال والحرية والسيادة. قرار دفعوا من أجله غالي الأثمان. الاغتيال لاحق زعماءهم عبر السنوات منذ الاستقلال
السُنّة والاستقلال صنوان لا يفترقان. من أراد أن يضرب الاستقلال يقوّض السُنّة، ومن أراد أن يستهدف السُنّة يسعى إلى إسقاط الاستقلال. عندما تهتزّ بيروت ويُنكَّل بناسها، يهتزّ هذا الكيان. وعندما تزدهر بيروت ويرتاح أهلها، يزدهر ويرتاح هذا الكيان. هذا هو السرّ الذي أدركه رفيق الحريري عندما جعل مشروع إعادة إعمار بيروت بوابةً لإعادة إعمار لبنان اقتصاداً ودوراً ووظيفة، فرفع المشنوق بريشة الراحل أمين الباشا شعار “بيروت مدينة عريقة للمستقبل”.
تعالوا نَعُد جميعاً إلى بعض المحطّات في التاريخ. ففي التاريخ عبرة وتذكرة للبشر، وبخاصة من كان منهم إنساناً:
1- بعد الهزيمة العثمانية في أيلول 1918، رتّب ألفريد سرسق وسليم سلام وأحمد بيهم (عيتاني) مغادرة الوالي العثماني إسماعيل حقي (الذي استمرّ سرسق بإرسال المال إليه)، فرَأَس رئيس البلدية عمر الداعوق الإدارة المؤقتة لبيروت. وفي الخامس من تشرين الأول، رفعت المسلمة السُنّية فاطمة المحمصاني، أخت اثنين من شهداء المقاومة ضدّ العثمانيين، هما محمد ومحمود المحمصاني اللذان أُعدما في 21 آب 1915، العلم العربي الهاشمي فوق السراي الصغير في بيروت، لكنّ الجيش الفرنسي دخل بعد أيام بيروت المحرَّرة بفضل أبنائها المنتسبين إلى الجيش العربي، ونزع العلم العربي عن السراي ووضع مكانه العلم الفرنسي.
2- في لندن عام 1927، قالت عنبرة سلام شقيقة الرئيس صائب سلام لصديقها فيصل الأول ملك العراق، وهما يسيران في متنزّه “ريتشموند”: “ما الذي فعلته المرأة الإنكليزية لكي تستحقّ كلّ هذه الاستقلالية؟ وما الذنب الفظيع الذي اقترفته المرأة العربية لكي تستحقّ حياة ملؤها القمع والإنكار؟”، لتفتح عنبرة سلام بعد ذلك طريق الحرية ليس للمرأة اللبنانية، بل لكلّ امرأة في الشرق.
3- قال يوماً إميل إده السياسي البيروتي وابن العائلة الجيزويتية، التي تضمّ الكثير من الأساتذة والكهنة، وكان يتحدّث الفرنسية أفضل من العربية، في لحظة الجدل حول الاستعمار الفرنسي ومطالبة الكثيرين بالاستقلال: “إنّ المسيحيين يريدون فرنسا، بينما يريد المسلمون الاستقلال”.
4- كما كان لافتاً الباحث المسيحي الآخر جورج فياض حين قال لصديقه ألفريد سرسق، أحد دعاة إنشاء لبنان الكبير: “وُلد لبنان مسخاً، رأسه بيروت أكبر من جسمه”. وكان الباحث فياض يرى أنّ لبنان مسيحيّ في جوهره، ولا بدّ أن تقتصر حدوده على سكّانه المسيحيين، وهي مساحة تتطابق تقريباً مع جبل لبنان عام 1915، وأنّ بيروت يجب أن تكون مدينة حرّة لا علاقة لها بمساحة لبنان.
قال يوماً إميل إده السياسي البيروتي وابن العائلة الجيزويتية، التي تضمّ الكثير من الأساتذة والكهنة، وكان يتحدّث الفرنسية أفضل من العربية، في لحظة الجدل حول الاستعمار الفرنسي ومطالبة الكثيرين بالاستقلال: “إنّ المسيحيين يريدون فرنسا، بينما يريد المسلمون الاستقلال”
5- قدّم رئيس الغرفة التجارية عمر الداعوق التماساً إلى المندوب الثاني الفرنسي، ذكر فيه أنّ بيروت مهدّدة من ميناء حيفا الحديث والكبير، وأنّ العراق وبلاد فارس (إيران) يبحثان كلاهما عن منفذ على البحر الأبيض المتوسط. فجاءت الاستجابة له لاحقاً عبر افتتاح ميناء ومطارين جديدين في بيروت عام 1938 لتأكيد دورها المحوري في المنطقة.
إقرأ أيضاً: السنّة ليسوا “حيوانات”… يا “فخامة” الرئيس
.. المراهنة على إخضاع السنّة للاحتلال أو الهيمنة خاسرة، كما أثبتت المحطات في كلّ زمان. لا سبيل معهم غير قيام الدولة بمؤسّساتها على أسس عادلة لكلّ أبنائها بعيداً من المذهب والطائفة أو المناطقية أو أيّ معيار آخر.
علينا جميعاً أن نقرأ التاريخ، وأن نتعلّم منه. ففيه كلّ العبَر وكلّ الأجوبة عن الأسئلة الباحثة عن إجابات في هذه الأيام. فلا إمكان لقيام دولة على حطام السُنّة، فحطامهم لا مرادف له إلا نهاية هذا الكيان.
لا إمكانية لوضع سُنّة لبنان بالخيار بين احتلال سياسيّ إيراني أو هيمنة حلف الأقليات على دورهم في القرار. الخيار إن أردنا المحافظة على هذا الوطن هو في احترامنا لبعضنا كلٌ وفقاً لدوره في عملية الإنقاذ ووقف الانهيار.