ثمّة تقاطع ثنائيّ، بل ثلاثيّ، سمح بتحرير جنوب لبنان في أيّار 2000.
كان هناك منظار سوري منخرط في عملية التسوية، التي دشّنها مؤتمر مدريد، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. وكانت ترجمته، سوريّاً، انسحاباً إسرائيليّاً تامّاً من الجولان إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967.
بخلاف المسلك الفلسطيني في التسوية، لم تكن هناك، أساساً، قابلية للفصل بين الاتفاق على أوضاع انتقالية، ثمّ الانتقال إلى بتّ الوضع النهائي.
اعتبر المفاوض السوري أنّه يفاوض على الوضع النهائي منذ البدء، ولم يقبل بحث عروض رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين (الذي اغتيل في 4 تشرين الثاني 1995) بانسحاب متدرّج على مراحل من الهضبة المحتلّة، على غرار الانسحاب المتدرّج من سيناء المصرية.
هذا مع التذكير بأنّ الكنيست الإسرائيلي، في اللحظة نفسها التي كانت إسرائيل تمضي قدماً في السلام مع مصر، اتّخذ قرار ضمّ هضبة الجولان. وهو قرار لم يتّخذه الكنيست حيال الضفة الغربية مثلاً، إلى اليوم، باستثناء ضمّ القدس الشرقية إثر احتلالها عام 1967. لقد كان المفاوض السوري مدركاً تماماً أنّه لا يمكنه المخاطرة بأيّ تدرُّجيّة هلامية في موضوع الجولان. فالمتاح أمام إسرائيل هو أن ترجعه كاملاً من دون نقصان، وإلا فلا سلام.
كان هناك منظار سوري منخرط في عملية التسوية، التي دشّنها مؤتمر مدريد، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. وكانت ترجمته، سوريّاً، انسحاباً إسرائيليّاً تامّاً من الجولان إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967
وقد تمسّك المفاوض السوري بعد اغتيال رابين، وبعد خسارة شمعون بيريز لانتخابات 1996، باستئناف المفاوضات في شباط 1996، من حيث توقّفت، رافضاً كل محاولة للتسويف والزغل للعودة بها إلى المربّع الأول. وهي توقّفت عند قبول إسرائيل الانسحاب من معظم الجولان، ورفض الانسحاب حتى بحيرة طبرية، متذرّعة بالفارق بين حدود ما قبل حرب الأيام الستّة، وبين حدود الانتدابين، الفرنسي على سوريا والبريطاني على فلسطين عام 1920.
هذا المنظار السوري كان أكثر تصلّباً من النماذج الأخرى التي انخرطت في عملية السلام، لأنّه كان يعي اختلاف نظرة الإسرائيليين إلى الجولان عن نظرتهم إلى سيناء. فعلى الرغم من كل الأهمية التوراتية لسيناء، تبقى السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان مسألة استراتيجية حيوية.
بيد أنّ المنظار السوري كان ينظر أيضاً الى تقدّم التسوية الإسرائيلية الفلسطينية نظرة مزدوجة الارتياب. الارتياب أوّلاً من أنّ هذا الفصل الحادّ بين مفاوضات الوضع الانتقالي وبين مفاوضات الوضع النهائي يتضمّن مخاطرة كبيرة. والارتياب ثانياً من أنّ أيّ تقدّم في المسار الفلسطيني الإسرائيلي يمكنه أن يكون على حساب المسار السوري الإسرائيلي. إذ لو تمكّنت إسرائيل من حلّ مشكلتها مع أكبر دولة عربية، مصر، ومع الفلسطينيين، ومع الأردن، فما الدافع حينها الذي يجعلها تفكّر في إبرام اتفاق سلام مع سوريا على أساس الانسحاب من الجولان؟ الجولان الذي لم يحتلّ في حرب الأيام الستّة إلا بعدما فرغت إسرائيل من احتلال غزة وسيناء والقدس والضفة، وفي نكث لتعهّد إسرائيلي للاتحاد السوفياتي بعدم اجتياح الهضبة السورية.
هذا المنظار السوري كان أكثر تصلّباً من النماذج الأخرى التي انخرطت في عملية السلام، لأنّه كان يعي اختلاف نظرة الإسرائيليين إلى الجولان عن نظرتهم إلى سيناء. فعلى الرغم من كل الأهمية التوراتية لسيناء، تبقى السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان مسألة استراتيجية حيوية
كانت الجبهة اللبنانية حاجة أساسية إلى المفاوض السوري الذي كان في الوقت نفسه الوصيّ الحاكم على لبنان. الحاكم بقوّة البطش، لكن أيضاً بقدرته على إدارة التناقضات بين الموالين له داخله. وفي أواخر التسعينيّات بدت هذه التناقضات كما لو أنّها امتداد لثنائية سورية داخلية، بين “خط” بشار الأسد وبين “خط” عبد الحليم خدام.
إقرأ أيضاً: ذكرى الانسحاب الإسرائيليّ… وانتصار الحزب على لبنان
المفارقة أنّ هذه الحاجة إلى الجبهة اللبنانية ارتبطت بتنامي تشكيل جماهيري مسلّح ينتمي إلى منظار رافض تماماً لألفباء عملية التسوية. ليس فقط لاتفاق أوسلو، بل لمرجعية مؤتمر مدريد نفسها. فـ”حزب الله” هو الابن اللبناني للثورة الإسلامية في إيران. يرى ما تراه في موضوع إسرائيل. نقدٌ شديد لتجربة الحروب النظامية معها، ونقد أكثر صرامة لفكرة التسوية معها. في اللحظة التي صالحت فيها أكبر دولة عربية إسرائيل، حملت إيران مشعل هذا الصراع. وفي اللحظة التي أُخرِجت فيها منظمة التحرير من بيروت، تُرجم ذلك بشكل أوضح. لم تعد المسألة مع إيران تتعلّق بكون الوحدة العربية هي الطريق إلى تحرير فلسطين أو تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية. وهذا نقاش سال من أجله الكثير من الحبر قبل صعود وهج الثورة الإيرانية. صار للمسألة منحى آخر فحواه أنّه كلّما اصطبغت المنطقة أكثر بالنموذج الخميني في الثقافة وفي السياسة، أُحكِم الخناق على إسرائيل أكثر، وأنّ الحرب مع إسرائيل لا يمكن تصوّرها حرب جبهات نظامية، بل هي جولات متقطّعة، لكن متتابعة، من الاشتباك بين حركات المقاومة ذات المرجعية الإسلامية، والمتأثّرة على نحو متفاوت بالنموذج الإيراني، وبين العدوّ. وما كان يؤخذ على إيران من أنّها دولة غير مجاورة لإسرائيل، وأنّ مزايدتها على مصر الساداتية سهلة لهذا السبب، حوّلته إيران إلى سبب إضافي لجدارتها في قيادة الصراع. فهي تستطيع، ببعدها آلاف الكيلومترات عن إسرائيل، توفير عمق داعم لحركات المقاومة ليس بوسع إسرائيل أن تطوله.
غداً الحلقة الثانية: اختلاف سوري – إيراني حمى الحزب