تحرير الجنوب (2): خرافة “لبننة” الحزب… والاستقلال الثاني

مدة القراءة 6 د

نجح حزب الله في التسعينيات بلبننة نسبية لخطابه. فعدل عن شعار “الثورة الإسلامية في لبنان” لمصلحة “المقاومة الإسلامية”. وفي سنة 1997، انتُخِب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في إيران. وكانت لهذه الموجة الخاتمية تأثيرات على النخب التي تدور في فلك “حزب الله” حينذاك. بل إنّ الحزب شارك في الاحتفال الجماهيري في المدينة الرياضية لمناسبة مجيء خاتمي إلى بيروت سنة 2003.

كانت للخاتمية تأثيراتها على الحزب الخميني اللبناني في تلك المرحلة. والخاتمية مضافةً إلى مظاهر لبننة الخطاب المتزايدة، جعلت مراقبين كثراً يتفاءلون بهذا المسار، فراحوا يرسمون لحزب الله مستقبلاً أكثر اندماجية في الصيغة اللبنانية. هذه التفاؤلية كانت تتجاهل أمرين: المشكلات البنيوية المستعصية لهذه الصيغة اللبنانية نفسها، واختلاف نموذج حزب الله عن النموذج الذي كان يقارنونه به بشكل لاواعٍ، أي نموذج الأحزاب الشيوعية.

يمكن تخيّل حزب شيوعي يطمح إلى ديكتاتورية البروليتاريا، ثم يحجم عنها ويصير شعاره تحقيق الاشتراكية بصناديق الاقتراع وبالتدريج. ويمكن لحزب شيوعي أن يعدّل اسمه. لكنّ الأمر يختلف في حالة الحركات الإسلامية لأنّ براغماتيّتها من طبيعة مختلفة. فما إن تباشر هذه البراغماتية حتى يستبدّ بها الخوف من إضاعة هويّتها. ذلك أنّ عقيدتها مبنية على الهويّة، وعلى إحياء نموذج مثالي أصلي عن هذه الهوية، وعلى الربط بين الدنيوي والأخروي بشكل عضوي ومباشر، وليس على الدنيوي فحسب.

على الرغم من كلّ هذا، اعتمد المفاوض السوري، من أجل تحسين شروطه في التسوية، على حزب يقاتل من أجل تحرير جنوب لبنان، لكن من منظار مناوئ عقائديّاً لفكرة التسوية نفسها مع إسرائيل، أي حزب رافض من الأساس لحصر سقف الصراع مع إسرائيل ضمن هدفيّة العودة إلى ما قبل خطوط الرابع من حزيران 1967.

كانت للخاتمية تأثيراتها على الحزب الخميني اللبناني في تلك المرحلة. والخاتمية مضافةً إلى مظاهر لبننة الخطاب المتزايدة، جعلت مراقبين كثراً يتفاءلون بهذا المسار، فراحوا يرسمون لحزب الله مستقبلاً أكثر اندماجية في الصيغة اللبنانية

حدث أكثر من مرّة أن غمز مرشد الثورة في إيران السيد علي الخامنئي من قناة المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وفي الوقت نفسه كانت سوريا تعتمد على حزب الله، ومِن ورائه إيران، لتحسين شروط التسوية.

لكن “حزب الله” ليس ابن الثورة الإيرانية ومعتنق عقيدة النظام الإيراني فحسب، بل هو ابن “المسألة الجنوبية” اللبنانية بكلّ مندرجاتها، وابن التهميش الحاصل لجنوب البلد منذ قيامه، وبشكل أكثر فداحة بعد قيام الدولة الصهيونية. هو ابن هذا التداخل. وهذا التداخل استطاع أن يمنح الحزب حيويّة وفعّالية قتاليّتين قادتا عملية تحرير الجنوب، لكن من ضمن التقاطع – المفارقة بين نظام سوري يبحث عن تسوية على أساس الأرض مقابل السلام، ونظام إيراني رافض تماماً لأساس فكرة التسوية.

هذا التقاطع الإيراني السوري، على ما بين النظامين من اختلاف جدّيّ على فكرة التسوية مع إسرائيل، وفّر الازدهار لتجربة حزب الله القتالية في التسعينيات، التي اكتسبت جدارة أكبر فأكبر من حرب 1993 إلى حرب 1996. وفي الوقت نفسه، كان الانسحاب من المنظار الإسرائيلي يفصح عن نيّته الفصلَ بين إيران وسوريا، من خلال إقفال الجبهة جنوب لبنان، وإفقاد سوريا قدرتها على تحسين شروطها التفاوضية.

لا يعني ذلك أبداً أنّ ما دفع إلى الانسحاب الإسرائيلي لم تكن الخسائر، التي كان يتكبّدها المحتلّ في الشريط الحدودي، وتضعضع الميليشيا المتعاونة مع إسرائيل. لكن إسرائيل رأت، في الوقت نفسه، أنّ الانسحاب يجعل حزب الله على تماس مباشر مع مستوطنات شمال الجليل، لكنّه يفقده في المقابل ورقة المفاوض السوري. طبعاً، هذا يظهر أنّ إسرائيل لم تكن تريد إجراء أي انسحاب فعلي من هضبة الجولان حتى بعد خروج الليكود مجدّداً من الحكم، وعودة حزب العمل مع إيهود باراك، وأنّ الحكومات المتعاقبة في إسرائيل بعد اغتيال رابين، بدءاً من شمعون بيريز نفسه، كانت تعمل بشكل مناقض تماماً لمبدأ الأرض مقابل السلام.

هذا التقاطع الإيراني السوري، على ما بين النظامين من اختلاف جدّيّ على فكرة التسوية مع إسرائيل، وفّر الازدهار لتجربة حزب الله القتالية في التسعينيات، التي اكتسبت جدارة أكبر فأكبر من حرب 1993 إلى حرب 1996

لم يعد ينطلق النقاش حول تحرير سنة 2000 من ارتباط مسار تحرير الجنوب بالتقاطع بين إيران، التي لا تريد التسوية، وبين سوريا التي تريدها على أساس عودة الجولان بالكامل. ولم يعد ينطلق من كون إسرائيل تريد بشكل أساسي التملّص من أيّ التزام بالانسحاب من الجولان، حتّى التقدم الحاصل في عهد حكومة رابين.

ولو لم يكن من الممكن اختزال كلّ النقاش في مفارقة هذا التقاطع بين سوريا وايران الذي وفّر الأرضية لتكثيف المواجهة التي قادها حزب الله ضدّ الاحتلال، وفي حاجة إسرائيل إلى الفصل بين سوريا وإيران، (قبل أن يُكتشَف السبيل لإنقاذ هذا الربط من خلال موضوع مزارع شبعا)، فإنّ النظر في هذا التقاطع وحصيلته يبقى أساسياً.

إقرأ أيضاً: مفارقات “التسعينيّات” التي صنعت تحرير الجنوب (1)

بداية، لم يكن هذا التقاطع تقاطعاً ثنائياً، بل كان ثلاثياً، لأنّه في مقابل إلغاء سوريا لمسار لبناني كان قائماً في الأساس ضمن عملية السلام المدريديّة، فإنّ “تفاهم نيسان” شكل محاولة مزدوجة: من جهة، أطَّر مساحة الصراع بين حزب الله والاحتلال، الأمر الذي سرّع باقتضاء الانسحاب. ومن جهة ثانية، حصل حزب الله على دعم اللبنانيين الآخرين بشكل أوسع في فترة 1996 – 2000، قبل أن يكتشفوا سريعاً، بعد التحرير، أنّ الأمور ليست بسهولة الانتقال إلى سرديّة أحلام ورديّة وطنية جامعة. فبعد التحرير، كان إصرار حزب الله على الاحتفاظ بسلاحه، لكن ما تبدّل هو أنّ هذا السلاح، الذي ارتبط بتقاطع إيراني سوري، بين نظام ضد التسوية ونظام مع التسوية بشروطه، دخل، وأدخل اللبنانيين معه، في مرحلة جديدة، في إثر الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وانفجار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية عند بلوغها طور الوضع النهائي، ثمّ السبات الطويل للمسار السوري الإسرائيلي، الذي زادت من تعقيداته إغارة إسرائيل على سوريا نفسها، عام 2003 ، في عين الصاحب، ثمّ بعد ذلك ببضع سنوات، تدمير ما اعتبر مفاعلاً نووياً في دير الزور.

لم يكد يتحرّر جنوب لبنان، حتّى رحل حافظ الأسد في سوريا، وانطلقت معركة تحرير لبنان من الوصاية السورية، ودخلنا في طور جديد من الأزمة اللبنانية. إنّ تحرير الجنوب قد أوجد سرديّتين. سرديّة الممانعة التي تقول إنّ السلاح الذي أثبت فعّاليّته ينبغي الحفاظ عليه. وسرديّة الاستقلالوية اللبنانية التي رأت أنّ تحرير الجنوب يسمح بتدشين معركة تحرير لبنان من الوصاية السورية. ما بين تحرير أيار 2000، وبيان المطارنة الموارنة في أيلول من ذلك العام، كان اللبنانيون يطوون العقد الذي كان ربّما الأكثر إيحاء بالتفاؤل في تاريخهم الحديث، على الرغم من كل الوطأة الوصائية السورية في التسعينيات.

 

غداً في الحلقة الثالثة: انسحاب اسرائيل ضرب صورة الحزب

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…