لم يكد وقف إطلاق النار يأخذ طريقه إلى التنفيذ في قطاع غزة بعد 11 يوماً من إطلاق الصواريخ حتّى أعلن النصر كلٌّ من نتانياهو وحركة حماس. من الصعب تحديد المنتصر من المهزوم وسط الموت والآلام والدمار، ولا سيّما في غزّة، لكنّ الذي لا شكّ فيه أنّ بعض السياسيين واللاعبين قد أفادوا من هذه الحرب.
بينما يمكن أن تكون الآثار مختلفة في المدى الطويل، خرج رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو وحركة حماس، كما هو ظاهر، أقوى ممّا كانا عليه قبل الحرب.
قال ديفيد شينكر (David Schenker)، المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب، والخبير في شؤون الشرق الأوسط في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إنّ “بيبي هو رابح حتّى الآن”. وأضاف في حوار معه: “أزاحت الحرب النظر عن عدم قدرة نتانياهو على تشكيل حكومة جديدة عقب أربعة انتخابات غير حاسمة خلال عامين. وجعلت تشكيل حكومة مستحيلاً على خصومه السياسيين. وها هي الحرب تشقّ الطريق لانتخابات خامسة”.
أمّا الرابح الآخر فهو حركة حماس، بحسب ما قال إيكارت وورتز (Eckart Woertz)، مدير المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية في هامبورغ، لقناة دوتش فيليه (Deutsche Welle) الألمانية. فالحركة قادرة الآن، بخلاف الرئيس الفلسطيني منذ زمن طويل محمود عباس، على عرض نفسها بوصفها حارسة المصالح الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي الخلاف الفلسطيني الداخلي. فقد أطلقت الصواريخ ضدّ إسرائيل، وباتت تدّعي أنّها حامية القدس، التي يزعم كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين أنّها عاصمة بلديهم.
الحركة قادرة الآن، بخلاف الرئيس الفلسطيني منذ زمن طويل محمود عباس، على عرض نفسها بوصفها حارسة المصالح الفلسطينية في الضفة الغربية
لقد ضعف موقف عباس منذ أن أعلن تأجيل الانتخابات في نيسان الماضي، وهي الأولى منذ آخر انتخابات حدثت قبل 15 عاماً، خشية تعرّضه للخسارة في معقله بالضفة الغربية على يد حماس. وعلى الرغم من أنّ حركة حماس مصنّفة منظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعدد من الدول العربية، فإنّ الوسطاء الدوليّين تفاوضوا معها مباشرة أو على نحوٍ غير مباشر. حتّى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، وهي من أكثر القادة الأوروبيين دعماً لإسرائيل، قالت إنّه، لأسباب واضحة، لا بدّ من الاتّصال بحركة حماس بشكل غير مباشر. واعتبرت صحف وقنوات تلفزيونية عربية مشهورة أنّ عباس هو الخاسر الأكبر.
وبمفارقة حادّة بين نتانياهو وإسرائيل نفسها، فإن إسرائيل خسرت بعض الشيء في هذا الصراع، وهو ما يوافق عليه حتّى أكثر المؤيّدين لها. وكتب المحلّل الإسرائيلي ديفيد هوروفيتس (David Horovitz)، في صحيفة تايمز أوف إسرائيل (Times of Israel)، أنّ الصراع قوّض الموقف الدولي لإسرائيل لدى بعض القادة وصنّاع الرأي الذين اعتبروا، عن خبث أو خبل، أنّ إسرائيل هي المعتدية لمجرّد أنّ ضحاياها أقلّ من الضحايا الفلسطينيين.
من جهته، قال دوغ شون (Douglas Schoen)، الخبير الأميركي المشهور في مجال استطلاعات الرأي، والذي أعدّ عدّة دراسات عن القادة الإسرائيليين، إنّ الكلفة الدبلوماسية عالية بالنسبة إلى إسرائيل. فإسرائيل تواجه إدانة دولية لجهة أنّ الردّ الإسرائيلي على صواريخ غزّة “غير متناسب”. وفيما بدا أنّها تساوي بين قصف حماس للأهداف المدنية وقصف إسرائيل للأهداف العسكرية المتغلغلة داخل الأماكن المدنية، فإنّ إدارة بايدن خضعت لضغوط العالم واليسار الديموقراطي.
لقد سارع الجيش الإسرائيلي إلى إعلان النصر تكتيكياً. وفي بياناتهم الموجزة، أعلن المسؤولون الإسرائيليون أنّ الغارات الجويّة قتلت ما يقارب 30 قائداً كبيراً في حركة حماس ومهندساً أساسياً متورّطاً في إنتاج الصواريخ، ودمّرت ما يقرب من ثلث شبكة الأنفاق والخنادق المقدّر طولها بـ 250 ميلاً، وهي التي تستعملها حماس لنقل المقاتلين والصواريخ، وأجهضت محاولة حماس اختراق إسرائيل عبر أحد الأنفاق، كما حاولت في آخر ساعات الصراع عام 2014.
ويقول المسؤولون الإسرائيليون إنّ حماس ذُهلت بقدر ما تعلمه الاستخبارات الإسرائيلية عن شبكة الأنفاق، مواقعها، وما تحويه. وبحسب موجز أدلى به الخبير المخضرم في الأمن القومي إيهود يعاري (Ehud Yaari) في معهد واشنطن، فإنّ الاستخبارات العسكرية والمحلية الإسرائيلية حذّرت نتانياهو قبل ثلاثة أسابيع من أنّ حماس تستعدّ لشنّ هجوم. ومع أنّ الاستخبارات نصحت نتانياهو بشنّ هجوم استباقي لردع حماس، إلا أنّه وأعضاء حكومته رفضوا الاقتراح، حتى لا يُلاموا بأنّهم يفتعلون أزمة لتحسين ظروف البقاء في مناصبهم.
وعلى الرغم من الإمكانات المؤثّرة للتقديرات الاستخبارية الإسرائيلية، يلاحظ خبراء عسكريون أنّ حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى لا تزال تحتفظ بقرابة 8 آلاف صاروخ من أصل 30 ألف صاروخ كانت تمتلكها، إضافةً إلى مئات منصّات الإطلاق، وهو عدد كافٍ لخوض جولات مستقبلية من الصراع.
لقد ضعف موقف عباس منذ أن أعلن تأجيل الانتخابات في نيسان الماضي، وهي الأولى منذ آخر انتخابات حدثت قبل 15 عاماً، خشية تعرّضه للخسارة في معقله بالضفة الغربية على يد حماس
إنّ طرفيْ النزاع كليهما بالغا في تأكيد ما أنجزاه، كما يقول آرون ديفيد ميلر (Aaron David Miller)، المحلّل والكاتب والمفاوض الأميركي في شؤون الشرق الأوسط. و”على الرغم من أنّ حركة حماس تمكّنت من الوصل بين غزّة والقدس، وفي توسيع الصراع بين اليهود والعرب في إسرائيل، وهو نادراً ما حدث منذ عام 2000، لكن لم تستطع حماس ولا إسرائيل تغيير معادلة الخسارة والربح”. ومع أنّ السلطة الفلسطينية قد ضعفت إلا أنّها تبقى العنوان في مجال التعاون الأمنيّ مع إسرائيل، وفي التحرّك ضمن 40% من الضفة الغربية التي تسيطر عليها، وفي كلّ ما له علاقة بمفاوضات السلام”. لذلك يرى ميلر أنّ أميركا وبلداناً أخرى ستدعو إلى تدعيم السلطة الفلسطينية. من جهة أخرى، قوّض الصراع مزاعم إدارة دونالد ترامب السابقة، عن أنّ الاتفاقات الإبراهيمية التي أسهمت في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب، قد همّشت دول الطوق. فالدور التفاوضي التقليدي من أجل وقف إطلاق النار قامت به مصر.
إقرأ أيضاً: هل يكون لبنان التالي بعد غزّة؟
في مجال استراتيجي، ثمّة شكوك لدى ميلر وآخرين في أنّ 50 ساعة من القتال ستُثني إدارة بايدن في السياسة الخارجية عن التركيز على روسيا والصين، بدلاً من الشرق الأوسط، أو عن التركيز على البرنامج الطموح لإعادة بناء البنية التحتية في الولايات المتحدة وتشجيع العدالة الاقتصادية. حتّى التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني يبدو أنّه قد فشل حتى الآن.
منذ أن سيطرت حماس على غزة قبل 14 عاماً، وقعت أربع حروب صغيرة مع إسرائيل، أكثرها فداحةً ودماراً كانت عام 2014، عندما قُتل 2200 فلسطيني، ودُمّر 170 ألف منزل. “ولم يتغيّر شيء منذ ذلك الوقت”، كما يقول ميلر. بل الأرجح أن تتكرّر مثل هذه الحروب.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا