لم يبقَ إلّا الجيش. آخر المرتكزات التي يُجمع عليها اللبنانيون. المؤسسة العابرة للطوائف وغير القابلة للشرذمة المذهبية. لم يعد في لبنان ما يرمز إلى كيانيّة الدولة ووجودها سوى المؤسسة العسكرية التي ينخرط قائدها جوزيف عون منذ أشهر طويلة في دور استثنائي، تجلّى في تعامله مع تظاهرات 17 تشرين ورفضه الانصياع لضغوط تفرض عليه مواجهة الشارع الملتهب والاصطدام بالناس، وصولاً إلى مواقفه الحريصة على العلاقات مع القوى العربية والدولية، بالإضافة إلى علاقاته الجيّدة مع مختلف القوى الاجتماعية اللبنانية والمؤسسات الدولية. تحوّل الجيش إلى مؤسسة تحظى بكلّ الثقة الداخلية والخارجية. فالمساعدات التي تأتي يفضِّل واهبوها تسليمها إلى المؤسسة العسكرية لتوزيعها على اللبنانيين، نظراً إلى انعدام الثقة بالدولة ومؤسّساتها وأركانها ذات الانتساب السياسي.
الجيش هو الجهة الأقدر والأقوى في لبنان، ولا يرضى أن تكون جهةٌ توازيها قوّة وتنظيماً، وهو قادر على جمع الطوائف كلّها، ويحظى بإجماع لبناني ودولي
ليس الهجوم، الذي يتعرّض له الجيش بشخص قائده جوزيف عون، تقنيّاً، ولا يمكن أن يكون عابراً، وهو أبعد ما يكون عن حسابات سياسية ضيّقة أو مرتبطة بتوقيت معيّن، وإن كان التوقيت على مشارف انعقاد مؤتمر دولي دعت إليه فرنسا لدعم الجيش اللبناني والأجهزة الأمنيّة الأخرى. عوامل كثيرة تفترض ببعض القوى الاستثمار في أيّ هجوم على الجيش، منها ما هو شخصي، ومنها ما هو ذو بعد سياسي أو إيديولوجي.
قبل الدخول في تلك الأسباب، لا بدّ من استعراض وقائع جيوش الدول التي أعلنت طهران سابقاً السيطرة عليها. لمّا أصبح لبنان في عداد الدول التابعة لمحور الممانعة أو المحور الإيراني، راح يسير على المسار نفسه من الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية ، بعد انهيار المؤسسات التي ترمز إلى الدولة الوطنية ومرتكزاتها. في خلاصة بسيطة، لا بدّ من الاستنتاج أنّ نظرية الثورة الإسلامية في إيران تتنافى كلّيّاً مع نظرية الدولة الوطنية والحفاظ عليها. فمشروع الثورة الطامح إلى التمدّد والتوسّع بناء على فكرة التصدير، يتنافى كليّاً مع مفهوم الدولة ذات السيادة، ويتعارض مع حماية الحدود واحترامها، ومع كلّ ما يرمز إلى الحفاظ عليها، وهو الجيش الذي وظيفته الأساسية، وفق الأعراف العامّة، الدفاع عن الأرض وحماية سيادة الدولة. لذلك كان المشروع الإيراني واضحاً في إذابة كل الحدود وصولاً إلى بناء “كوريدور” إستراتيجي من طهران إلى بغداد فدمشق، وصولاً إلى بيروت. وعند تشييده في عزّ الحرب السورية، أعلن قادة في الحرس الثوري الإيراني السيطرة على أربع عواصم عربية، وخرج مسؤولون في حزب الله يعلنون اتحاد الجبهات، ووصل بعضها بالبعض الآخر جغرافياً. حتماً، إنّ أيّ مشروع من هذا القبيل لا يمكن أن ينسجم مع وجود جيش يتمتّع بقرار سيادي، ويخالف تلك التوجيهات. في تلك المعادلة، إمّا أن يكون الجيش خاضعاً وتابعاً، وإمّا لا بدّ من إضعافه.
منذ انتصار الثورة، كان المشروع الأساسي هو تدمير الجيش الإيراني لمصلحة تعزيز الحرس الثوري، الذي أصبح شريكاً في البنية الاقتصادية لإيران، وله حصّة من عائدات النفط. هذا النموذج تعمّم في سنوات لاحقة، وتحديداً في العراق حيث أسّس الحشد الشعبي وتمّت شرعنته بعد تفكيك الجيش العراقي. حاولت إيران استنساخ التجربة في سوريا مع دخولها قبل سنوات من خلال تأسيس قوات الدفاع الوطني، التي سرعان ما عملت روسيا على تفكيكها بعد دخولها سوريا في عام 2015. واليوم تحاول إيران إعادة بناء ميليشيات مشابهة في دمشق وحلب، على حساب الجيش السوري. يتقدّم هذا التصوّر أيضاً في مجالات مؤسساتية أخرى لها علاقة بمفهوم الدولة، كقطاع الكهرباء أو التعليم أو غيرهما. فالعراق غارق في أزمة كهربائية لم يشهدها في تاريخه لمصلحة مافيات المولّدات، في تجربة مماثلة للتجربة اللبنانية. والأمر نفسه ينطبق على قطاع التعليم. هذا النموذج يُعمَّم في سوريا أيضاً، من خلال مافيات المولّدات والمحروقات وغيرهما. كلّ هذه الصور تشير إلى أنّ المشروع يرتكز على تحلّل مفهوم الدولة.
يهاجمون الجيش من بوّابة علاقته بالولايات المتحدة الأميركية وصولاً إلى حدّ التلويح بالخيانة، وذلك لتبرير شراسة الهجوم، وفي سبيل تطويعه أكثر أو إضعافه أو جلبه إلى بيت الطاعة
انطلاقاً من هذا المشروع الواضح المعالم، تجتمع جملة أسباب لشنّ الهجومات المتكرّرة على الجيش اللبناني:
أولاً، الأسباب السياسية الإيديولوجية: الجيش هو الجهة الأقدر والأقوى في لبنان، ولا يرضى أن تكون جهةٌ توازيها قوّة وتنظيماً، وهو قادر على جمع الطوائف كلّها، ويحظى بإجماع لبناني ودولي.
ثانياً: يحظى الجيش اللبناني بثقة دولية كبيرة وضعت الكثير من الإمكانات بتصرّفه. وستُعقد مؤتمرات دولية في سبيل دعمه. هذا الأمر سيعزّز وضعيّة الجيش بالنسبة إلى المجتمع الدولي، وسيرفع أسهم قائد الجيش جوزيف عون.
ثالثاً: يهاجمون الجيش من بوّابة علاقته بالولايات المتحدة الأميركية وصولاً إلى حدّ التلويح بالخيانة، وذلك لتبرير شراسة الهجوم، وفي سبيل تطويعه أكثر أو إضعافه أو جلبه إلى بيت الطاعة.
رابعاً: الخشية الأساسية، لدى الجهات المهاجمة، تنطلق من خلفيّة أساسية، وهي أنّ الجيش لا يمكن أن يكون متحرّراً أو سيادياً بعد تطويع كلّ القوى والمرجعيّات السياسية.
خامساً والأهمّ: قد يكون لدى حزب الله وبيئته خوفٌ مبرّرٌ من إقدام الجيش على أيّ خطوة باتجاه قوسايا. وهذا ما يوضع في عداد التطوّر الذي يطول فلسفة الجيش وعقيدته، الأمر الذي يعتبره الحزب ضرباً لسلاح المقاومة. وهذه فكرة تعود إلى طاولتيْ الحوار والتشاور، حيث بُحِث السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها. بعد الاتفاق على هذه النقطة، مُنِع الجيش من القيام بأيّ خطوة هدفها نزع السلاح خارج المخيّمات.
إقرأ أيضاً: جوزف عون: لن أسمح بكسر الجيش
أمّا في الأسباب الشخصية، تعتبر قوى متعدّدة أنّ قائد الجيش أصبح منافساً أساسيّاً على رئاسة الجمهورية بسبب علاقاته الخارجية والإجماع الذي يحظى به في الداخل. وهنا تتلاقى الحسابات الشخصية المصلحية مع الحسابات السياسية على ضرورة إضعاف الجيش أو إحراق صورة قائده أو توريطه بنصب الكثير من الفِخاخ له، سواء في ملف ترسيم الحدود، أو ربّما، وهنا الخطر الأكبر، نصب فِخاخ له على الأرض وتوريطه في اشتباكات أو صدامات مع متظاهرين أو غيرهم.