هذا عهد كلّ الفرص الضائعة. الفرص الضائعة التي أضاعت لبنان. لا حاجة إلى تعداد الأسباب التي تؤكّد ذلك، بدءاً بالذلّ الذي يعيش اللبنانيون في ظلّه، وصولاً إلى احتجاز أموالهم في المصارف، والتصرّف غير المسؤول لكلّ مَن في السلطة، خصوصاً رئيس الجمهورية ميشال عون، في ما يخصّ جريمة تفجير مرفأ بيروت. هل يعقل هذا الغياب لأيّ معلومات واضحة تشرح للّبنانيين ما الذي دمّر جزءاً من بيروت، وعدداً كبيراً من الأحياء المسيحية تحديداً، قبل ما يزيد على تسعة أشهر؟
في ضوء الواقع السائد على الأرض، ليس صحيحاً ما ذكره رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع لـ”النهار”، حديثاً، من أنّه “كان ممكناً أن يكون الوضع اليوم أسوأ من ذلك، لو لم نذهب إلى انتخاب عون” رئيساً للجمهورية. قبل كلّ شيء، لا يوجد ما هو أسوأ من الوضع القائم المرشّح لأن يسوء أكثر في ظلّ حالٍ من الانهيار الحرّ الذي لا قعر له. ويسمح هذا الانهيار لرئيس الجمهورية بممارسة هوايته المفضّلة المتمثّلة في تشريد اللبنانيين وتهجيرهم من بلدهم. نراه، بكلّ بساطة، يستكمل ما بدأه في عاميْ 1989 و1990، عندما كان في قصر بعبدا رئيساً لحكومة مؤقتة مهمّتها محصورة في تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل. خاض ميشال عون وقتذاك حربيْ “التحرير” و”الإلغاء”. ما نشهده اليوم ملحق للحربين اللتين أسفرتا عن هجرة لا سابق لها للمسيحيين الذين لا يزال قسم منهم لا يريد أن يتعلّم شيئاً من دروس الماضي القريب. إذ لا تنفكّ لدى هؤلاء أوهامٌ تحرِّكها الغرائز تجعل منهم يؤمنون بشيء اسمه ميشال عون، الذي أثبتت التجارب والممارسات أنّه ليس سوى عبارة عن كتلة من الحقد. هو الحقد على كلّ نجاح لبناني، والحسد لهذا النجاح.
هل يعقل هذا الغياب لأيّ معلومات واضحة تشرح للّبنانيين ما الذي دمّر جزءاً من بيروت، وعدداً كبيراً من الأحياء المسيحية تحديداً، قبل ما يزيد على تسعة أشهر؟
كانت الفرصة الضائعة الأولى للعهد، الذي هو عمليّاً “عهد حزب الله”، عندما وضع كل العراقيل في طريق تنفيذ مؤتمر “سيدر”، الذي انعقد في نيسان 2018 في باريس، بمبادرة فرنسيّة، وبدفع من سعد الحريري، في ظلّ شعورٍ بالحاجة إلى إنقاذ البلد. كان “سيدر”، الذي عنى أوّل ما عناه إجراءَ إصلاحات جذرية في لبنان وتحقيق شراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ، فرصة لا تعوّض من أجل الحصول على مساعدات وتفادي الإفلاس المالي.
تبيّن، منذ وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا، أن لا أجندة لبنانية سوى أجندة “حزب الله”، الطرف اللبناني الوحيد الذي يعرف ماذا يريد في ضوء كونه لواءً في “الحرس الثوري” الإيراني ليس إلّا. لم يأتِ “حزب الله” بميشال عون رئيساً للجمهوريّة من فراغ. كان يعرف تماماً، بعد سلسلة اختبارات للرجل ولصهره جبران باسيل، طوال عشر سنوات كاملة، أن لا أفضل منهما لتنفيذ أجندة الانهيار.
يعجّل في الانهيار غيابُ أيّ أمل في تشكيل حكومة. أكثر من ذلك، لم يعد معروفاً هل يفيد تشكيل حكومة في شيء في ظلّ الأحداث الإقليمية المتلاحقة التي كشفت مدى جهل العهد بما يدور في المنطقة من جهة، ورهاناته الكارثية من جهة أخرى. كيف يمكن لعاقل الرهان على انتصار إيراني في المنطقة، وعلى مستقبل سياسيّ لبشّار الأسد؟
تبيّن، منذ وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا، أن لا أجندة لبنانية سوى أجندة “حزب الله”، الطرف اللبناني الوحيد الذي يعرف ماذا يريد في ضوء كونه لواءً في “الحرس الثوري” الإيراني ليس إلّا
تجاوزت الأحداث مسألة تشكيل حكومة لبنانية تضمّ اختصاصيّين، توجد لائحة كاملة بأسمائهم لدى رئيس الجمهورية. وسواء أفرج ميشال عون عن مثل هذه الحكومة أم لم يفعل ذلك، وهو ما كان مفترضاً به عمله قبل عدّة أسابيع، لن يتغيّر شيء في لبنان. لن يتغيّر شيء ما دام “حزب الله”، الذي جرّ لبنان إلى كلّ أزماته مستخدماً “العهد القوي” ورغبة جبران باسيل في أن يكون رئيساً للجمهوريّة، مصرّاً على أن يكون لبنان ورقة إيرانيّة.
لم يعد سرّاً أنّ الإدارة الأميركية الجديدة التقطت تماماً ما يدور في لبنان. وهذا ما يفسّر العقوبات التي فرضتها على سبعة من المنتمين إلى “حزب الله”، لهم علاقة بنشاطاته المالية. هل بدأ العهد يعي أنّ الإدارة الأميركية لم تغيّر موقفها من “حزب الله” ونشاطاته، مثلما لم تغيّر موقفها من النظام السوري، بل تبدو أكثر تشدّداً من الإدارة السابقة في ما يخصّ هذه النقطة؟
إقرأ أيضاً: نهايةٌ لا يستحقّها مسيحيّو لبنان!
مسكين لبنان الذي يفتخر رئيس جمهوريّته، عبر تغريدة له، بتلقّي “رسالة من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة عرض فيها للتطوّرات الأمنية الأخيرة في ضوء الاعتداءات الإسرائيلية على القدس، وطلب التحرّك العاجل لاتخاذ موقف حازم ضدّ هذا العدوان والإجرام”. يعيش “العهد القوي”، الذي لا يعرف أصلاً ما هي “حماس” ومن هو إسماعيل هنيّة، في عالم لا علاقة له بالعالم، فلا يوجد فيه مَن يدرك أنّ أهل القدس لم يثوروا في وجه الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل ثاروا أيضاً في وجه السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وفي وجه “حماس” التي خطفت ثورتهم وأفرغتها من مضمونها بعدما حوّلت الجلّاد الإسرائيلي إلى ضحيّة بإطلاقها صواريخ من غزّة.
تربط كلمة الجهل بين كلّ تصرّفات العهد، الذي لم يترك فرصة إلّا وأضاعها من أجل المحافظة على الأمل بأن يخلف جبران باسيل عمّه ميشال عون في قصر بعبدا. من يفكّر في مثل هذه الطريقة، ومن يعتقد أنّه ستجري انتخابات من أيّ نوع في لبنان في السنة المقبلة، فإنّما يراهن على سراب، لا لشيء سوى انعدام ما يضمن بقاء لبنان في ظل صيغته الحاليّة، وما دامت القوّة التي تتحكّم به هي “حزب الله”. مَن يحتاج إلى دليل على ذلك يستطِع أن يسأل نفسه: ألا يزال لبنان في سنة 2021 يشبه لبناننا الذي عرفناه في ماضٍ لم يمرّ عليه زمن طويل بعد؟