(يقول أحمد فؤاد نجم: يا هوى الأحلام يا عَزَّة)
يمكن القول إنّ الضغوط الأميركية على إيران، لفتح مسارات الملفّات الإقليمية مقابل العودة إلى الاتفاق النووي، بدأت تعطي النتائج المطلوبة وتشير إلى مرحلة من التعاون المباشر وغير المباشر، العلني ومن تحت الطاولة، بين الطرفين من جهة، وبين إيران والقوى الإقليمية من جهة أخرى.
الإيراني، الذي كان يرفض أيّ تزامن أو ترابط بين الملف النووي والملفات الأخرى، أو أن يجلس إلى طاولة التفاوض ويضع كل الملفّات في سلّة واحدة للبحث عن حلول لها حسب الرغبة الأميركية، أُجبر على تدوير زوايا موقفه المتشدّد، وأن يستجيب جزئياً أو نسبياً للمطلب الأميركي تحت مسمّيات أخرى وضمن آليات مختلفة ومنفصلة لا تقترب من مفهوم السلّة الواحدة في الشكل، لكنّها تنسجم معها في المضمون والنتائج، خصوصاً في إظهار ليونة كبيرة وواضحة في موضوع النفوذ الإقليمي، وذلك من أجل الحصول على الاتفاق النووي من جديد.
إرهاصات ما يمكن وصفه بالتسوية الأميركية الإيرانية في غرب آسيا، من خارج الاتفاق النووي، لم تكن لتتحقّق أو تأخذ مساراً عملياً من دون مبادرة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والموقف الإيجابي من أيّ حوار بين الرياض وطهران
الليونة الإقليمية الإيرانية لا يمكن أن يذهب إليها المفاوض الإيراني أو الدبلوماسية الإيرانية ما لم تكن بموافقة من المرشد، خصوصاً أنّ هذا الأمر بدا واضحاً، أي موافقة المرشد، من خلال الكلام الذي قاله خامنئي تعليقاً على التسريب الصوتي لظريف حول الدور الإقليمي لإيران. إذ أكّد أنّ السياسات الاستراتيجية لإيران تحدّدها القيادات العليا، في حين ينحصر دور الخارجية في تنفيذ هذه السياسات وليس في وضعها أو رسمها.
ما يمكن تسميته بـ”التنازل الإيراني الإقليمي” لم يكن من جانب واحد، بل جاء في سياق وضمن إطار تسوية مع واشنطن يقدّم فيها كلّ طرف للآخر ما يساعد على تسهيل العودة إلى الاتفاق النووي، إلى جانب التعامل مع الملفات الأخرى التي يحتاج الطرفان إلى وضع أسس حلٍّ واضحة ومتينة لها. فالأميركي يريد نقل منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا إلى حالة من الهدوء والتفاهمات التي تسمح له بتخفيف انخراطه في أزماتها بما يساعده في التفرّغ للتحدّي الآتي من شرق آسيا والصين.
في حين أنّ الإيراني يحتاج إلى دور واشنطن لضبط إيقاع الدول الإقليمية، بما يسمح لها بالانتقال إلى مرحلة تسييل استثماراتها السياسية والاستراتيجية التي تكرّسها شريكاً فاعلاً في هذه المنطقة. ومن هنا نرى أنّ إرهاصات ما يمكن وصفه بالتسوية الأميركية الإيرانية في غرب آسيا، من خارج الاتفاق النووي، لم تكن لتتحقّق أو تأخذ مساراً عملياً من دون مبادرة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والموقف الإيجابي من أيّ حوار بين الرياض وطهران، لكن من دون تنازل سعودي عن التمسّك بضرورة معالجة مصادر القلق من أنشطة إيران النووية والصاروخية والنفوذ في دول الجوار.
وإذا ما كانت بوادر التفاهم الإيراني الأميركي حول الإقليم قد تمظهرت في تكريس نيّة الحلّ السلمي للأزمة اليمنية، فإنّ نصيب العراق في ذلك كان التفاهم على تحييده وعدم تحويله إلى ساحة لتوجيه الرسائل السلبية من خلال التصعيد العسكري والأمني، من دون استبعاد الرسائل المدروسة. بالإضافة إلى عدم تضخيم مطلب انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد من خلال البحث عن بدائل تكفل للطرفين الحصول على ما يريدان، بما ينسجم مع المواقف التي تمسّكا بها.
الحوارات من جهة أخرى بين إيران ودول عربية، لا تقتصر على اللقاء الذي حصل مع السعوديين، بل توسّع، حسب بعض التسريبات التي لم يؤكدها أيّ من الأطراف، لعقد لقاءات أمنيّة مشابهة مع الجانبين الأردني والمصري
وهذا الترسيم لحدود وأطر المواجهة والتعاون، هو الذي سمح لهما بتحويل العراق إلى مساحة يمكن أن تؤدّي دور المستضيف للّقاءات والحوارات بين واشنطن وإيران عبر الوسيط البريطاني من جهة. إذ كان السفير البريطاني رسولاً بين السفيرين الأميركي والإيراني، وهو ما مهّد أو سهّل الطريق للوصول إلى فيينّا. والحوارات من جهة أخرى بين إيران ودول عربية، لا تقتصر على اللقاء الذي حصل مع السعوديين، بل توسّع، حسب بعض التسريبات التي لم يؤكدها أيّ من الأطراف، لعقد لقاءات أمنيّة مشابهة مع الجانبين الأردني والمصري.
الأزمة السورية لا شك أنّها تشكّل عقدة الملفّات الإقليمية الإيرانية، والمختبر الحقيقي لحجم نفوذها في المنطقة. فإذا كان الأميركي قد رفع الحظر المفروض نسبياً على أيّ مبادرة عربية للانفتاح على النظام السوري في السنتين الأخيرتين، فإنّه هذه المرّة قد لا يعارض إعادة تفعيل مساعي الحوار العربي السوري، بما فيها التمهيد العملي لعودة سوريا إلى الجامعة العربية. في المقابل قد يكون المطلوب من الجانب الإيراني تقديم ضمانات، طالما تمسّك بها الأميركي، تتعلّق بطبيعة وحجم الوجود الأمني والعسكري في سوريا، بالإضافة إلى تأكيد الحفاظ على المعادلات العسكرية في ما يتعلّق بأمن إسرائيل وحدود مصالحها.
وإذا كان الاهتمام لدى المتابعين يتركّز على مساحات التجاذب الإيراني الأميركي في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية، فإنّ ما يجب التوقّف عنده هو التطابق في استخدام المصطلحات والتقسيمات الجغرافية لمناطق التماس والصراع لدى كل من الإدارتين الأميركية والإيرانية. إذ إنّ كليْهما يتحدّثان عن منطقة غرب آسيا، وهو ما يجعل الساحة الأفغانية في صلب هذه التفاهمات. لذلك أفسحت الإدارة الأميركية في المجال لدور إيراني فاعل في الحوار الأفغاني – الأفغاني، الذي يعتبر الحجر الأساس والمطلب الملحّ للسير في تنفيذ قرار الانسحاب من هذا البلد خلال الأشهر المقبلة. خصوصاً أنّ الاستقرار في أفغانستان يشكّل أحد أهمّ ركائز الاستقرار الإيراني، ومجالاً حيويّاً لأمن النظام على حدوده الشرقية لِما له من تأثيرات أساسية على سياساته الاستراتيجية في علاقاته في هذه المنطقة التي تمتدّ إلى شبه القارّة الهندية، وصولاً إلى الصين وروسيا، مروراً بباكستان.
إقرأ أيضاً: مفاوضات فيينا: إنها عملية هشة
إنّ الحراك السياسي والدبلوماسي والحواري، الذي تشهده المنطقة على الخط الإيراني السعودي، واستتباعاً على المسار السعودي السوري، بالإضافة إلى الإيجابية الحذرة، التي تطلّ برأسها من وراء كواليس مفاوضات فيينا غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، دفعا كل المعنيّين في الدول التي تشكّل مساحات للنزاع الإقليمي إلى أن يبدأوا خطوات عملية تُلاقي الجهود التي تبذل على خط الحوار الأميركي الإيراني، والحوار السعودي الإيراني، بحيث تؤسّس لمرحلة من خفض التوتر، والتفاهم على آليّات تسمح بانتقال المنطقة إلى حالة أكثر استقراراً وأمناً.