“البواخر”: هو عنوان عريض يغيب ويرجع إلى يوميّات اللبنانيين من بوابة الكهرباء “المقطوعة”، ويحمل في طيّاته فيول الفساد المعتّق بتسهيلاتٍ سياسيّة من رؤوس المعنيّين. واليوم من مربّع القضاء المالي برز ملفّ “صفقة المستشارين”، بعدما قرّر القضاء اللبناني احتجاز البواخر التركية التي تنتج الكهرباء، ومنعها من مغادرة السواحل اللبنانية، في إطار التحقيق باحتمال وجود شبهات فساد بملايين الدولارات. شبهات يبدو، بحسب المعطيات الأوّليّة، أنّها ستطول رؤوساً سياسية كبيرة في بلاد العتمة. وبعد الاستماع “الشكليّ” لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في نيسان الماضي، علم موقع “أساس” أنّ رِحال التحقيق حطّت عند الاستماع إلى رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، والوزير الأسبق محمد الصفدي.
وافق قاضي التحقيق في بيروت روني شحادة على طلب تخلية سبيل كلٍّ من فاضل رعد ورالف فيصل الموقوفَيْن في ملفّ البواخر التركية، وذلك مقابل كفالة مالية قدرها مليون دولار أميركي لرعد، و700 ألف دولار لفيصل، وهو ما أحدث صدمة قضائية وسياسية، ولا سيّما بالنسبة إلى الجهات المتابعة لمضمون الملف، والتي واكبت صفقة عام 2012 الشهيرة.
تبيّن أنّ المستشار السابق لباسيل غجر نفسه، كان قد وقّع الكتاب الموجّه إلى هيئة القضايا في بداية أيّار، أي قبل ثلاثة أسابيع من كلمة باسيل، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة عن مخاطبة باسيل لغجر عبر الإعلام، في أمر يفترض حكماً أنّه على اطّلاع عليه
وقد كشفت جهات لصيقة بالتحقيق لموقع “أساس” أنّ استدعاء رئيس التيار الوطني الحر أمام النيابة العامة المالية اتّخذ طابع المجاملة، فيما تبيّن أنّ التسجيلات التي تكشف “دولة الطاقة العميقة والسمسرة” لم يتم التَعامل معها كما يلزم. وتُلفت هذه الجهات إلى تسوية تمّت بين الجهات السياسية والمواقع القضائية، يُطلِق قاضي التحقيق بموجبها سراحَ سماسرة الملف مقابل أن تحجز النيابة العامة المالية البواخر.
الأخطر في التطوّرات، بحسب المصادر اللصيقة بالتحقيق، أنّه قبل استدعاء وزير الطاقة السابق جبران باسيل ومستشارته الوزيرة السابقة ندى البستاني، ووزير المال في حينه محمد الصفدي، وباقي الأفراد الذين ارتبط اسمهم بصفقة البواخر، للاستماع إلى إفادتهم، وقبل الحصول على كامل المستندات التي تتعلّق بملف تلزيم البواخر في التحقيقات ومواجهة المتورّطين، قرّر قاضي التحقيق في بيروت، روني شحادة، تخلية سبيل الموقوفين في الملف.
وسبقت تخلية السبيل خطوات احترازية حفظت ماء وجه القضاء. فإلى جانب قرار المدّعي العام المالي القاضي علي إبراهيم منع الباخرتين اللتين تعودان إلى الشركة من مغادرة الأراضي اللبنانية، وتكليف وزارة المال بالامتناع عن دفع المبالغ المتوجّبة لمصلحة شركة “غارودنيز” التركية وشركة “كارباورشيب ليميتيد” إلى حين التزام الشركتين المذكورتين بإعادة 25 مليون دولار للدولة اللبنانية، عُمِّم بلاغُ بحث وتحرٍّ بحق صاحب أو أصحاب الشركة. قرارات أحدثت ضجة وأوهمت اللبنانيين بأنّ الحساب آتٍ، إلا أنّ عدم موافقة رأس النيابة العامة المالية على تخليات السبيل أثمر تسوية ربطت تخلية السبيل بالحجز على البواخر، بحسب تقدير المصادر.
وامتدّت مفاعيل الصفقة إلى قاعدة الصمت المتبادل، واللقاءات التي تمّت بين مختلف الأطراف الراعية للمشتبه فيهم، لتنسيق الإفادات أمام القضاء وتوحيد الرواية وربط المبالغ المدفوعة بصفقات أخرى مجهولة. لكن ترى المصادر أنّ هناك متغيراً سيطرأ على الصفقة الجديدة، يشبه المتغيّرات التي حصلت إبّان الصفقة الأم حين استقدمت البواخر، وتجدّدت مع آخرين عند التمديد لها لاحقاً، من خلال إعداد رالف فيصل لإطلالات ومواقف وإجراءات وتهديد بالبند التحكيمي وسائر بنود العقد بين شركة “كارادينيز” التركية والحكومة اللبنانية.
تفيد مصادر “أساس” بأنّ التسجيلات، التي بحوزة القضاء والأجهزة الأمنية، تتعلّق أيضاً بشخصية مقرّبة من الوزير محمد الصفدي صاحب التوقيع على دفع السلفة التي حُدّدت بعد توقيع العقد، ولا تزال التحقيقات بعيدة عن تحميل المسؤوليات
كان لافتاً في القضية، بعد كشف فضيحة دفع عمولات في ملف تلزيم البواخر لسياسيين ووزراء مقابل تمرير الصفقة، وبعد التزامه الصمت لأكثر من شهر على توقيف وكيل الشركة المقرّب منه رالف فيصل، خروج الوزير باسيل في مؤتمره الصحافي الأخير في 24 نيسان الماضي مطالباً وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر بالتحرّك لمخاطبة هيئة القضايا، للادّعاء في ملف صفقة البواخر، ولتحصيل البند الجزائي الموقّع من الشركة بقيمة 25 مليون دولار. ثمّ تبيّن أنّ المستشار السابق لباسيل غجر نفسه، كان قد وقّع الكتاب الموجّه إلى هيئة القضايا في بداية نيسان، أي قبل ثلاثة أسابيع من كلمة باسيل، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة عن مخاطبة باسيل لغجر عبر الإعلام، في أمر يفترض حكماً أنّه على اطّلاع عليه.
وكان وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر، على طريقة تبادل الأدوار، قد أصدر بياناً في مطلع أيار يكشف خلاله عن توجيه كتاب ثانٍ إلى رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، طلب مجدّداً تزويد الوزارة “بالمعلومات والمعطيات كافة المتوافرة التي من شأنها أن تبيّن الضرر المباشر وغير المباشر اللاحق بوزارتنا جرّاء الأفعال الجرميّة المرتكبة من المدّعى عليهم، تمكيناً لنا من اتّخاذ صفة الادّعاء الشخصي في حقّهم”.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الملف، الذي فتحه القضاء، بناءً على تقارير صحافية، أثبت وجود تسجيلات تدين فيصل ورعد، وتوثّق دفع عمولات للحصول على التلزيم، إضافة إلى وجود عقود موقّعة لضمان دفع العمولات المتّفق عليها. وبحسب مصادر قضائية متابعة، فإنّ القاضي شحادة لم يواجه الموقوفين بالمعنيّين في التسجيلات وبتوقيع هذا العقد، ولم يطلب الاستماع إلى صاحب الشركة أورهان كارادنيز، ولم يتوسّع في التحقيقات مع ممثّل الشركة في لبنان سمير ضومط. وكلّها مؤشّرات تشير إلى محاولة طمس الحقيقة وحماية المرتكبين.
وتفيد مصادر “أساس” بأنّ التسجيلات، التي بحوزة القضاء والأجهزة الأمنية، تتعلّق أيضاً بشخصية مقرّبة من الوزير محمد الصفدي صاحب التوقيع على دفع السلفة التي حُدّدت بعد توقيع العقد، ولا تزال التحقيقات بعيدة عن تحميل المسؤوليات، علماً أنّ الرئيس ميقاتي سبق أن تحدّث، في تصريح له إبّان توقيع العقد، عن عمولات دُفعت لوزيرين في حكومته، وصلت، حسب ما نقل عنه في حينها، إلى 26 مليون دولار.
وقد نقلت جريدة “الأخبار” في 30 آذار 2012 التالي: “ميقاتي قال أمام شخصيات رسمية وغير رسمية، إنّه يعرف أنّ “كل واحدة من الشركتين ستدفع عمولة قدرها 13 مليون دولار” لقاء حصولها على عقد البواخر. لا يحدّد ميقاتي، بحسب من التقوه، من سيتلقى هذه العمولة، لكن مقربين منه يشيرون إلى اثنين من الوزراء”.
ويعلّق مصدر مقرّب من المدّعي العام المالي على الملف وردّة الفعل على القرارات التي اتّخذت فيه، فيؤكّد أنّ “عنصر الثقة لدى اللبنانيين أصبح بمستوى الصفر، بغضّ النظر عن وجود صدقيّة لدى أيّ قاضٍ أم لا، ولذلك مهما كانت القرارات المتّخذة في أيّ ملف ستكون محطّ جدل واستهداف”. ويقول لـ”أساس”: “الأمور معقّدة، ولو لم يتّخذ القاضي علي إبراهيم القرار بتغريم البواخر، ومنع وزارة المال من دفع المبالغ المتوجّبة لمصلحة الشركات، كان يمكن أن نقول إنّ القضاء مسيّس في هذا الملف”.
أما حول استدعاء الوزير باسيل وكيفيّة التعاطي معه، فيشدّد المصدر على أنّ “القاضي إبراهيم لو كان يريد التعاطي سياسياً مع باسيل لكان وجد في ذلك فرصة لوضعه في قفص الاتّهام، على اعتبار أنّ كثيرين يقولون إنّ المدّعي العام المالي يتماهى مع مصالح رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكنّه لم يفعل ذلك لأنّه لا وقائع تثبت فعلياً تورّط باسيل”. ولا ينكر المصدر حصول ضغوطات سياسية في الملف: “لكنّ القضاء المالي لم يكترث بها بدليل القرارات التي اتُّخذت، أمّا في ما يخصّ تخلية سبيل فيصل ورعد، فهنا انتهى دور القاضي إبراهيم، وقاضي التحقيق ارتأى تخلية سبيلهما مقابل غرامات مالية كبيرة ستعود لخزينة الدولة”.
إقرأ أيضاً: الكهرباء والعتمة: تصفية حسابات بين الجميع..
على وقع العتمة التي تهدّد لبنان بعد أيّام، جاءت تخلية سبيل متورّطين في ملف صفقة البواخر لتخيّم على التفاؤل الذي رافق الملف في بداياته. هو ملفٌّ مرتبط بكل لبناني، فيه 40 مليار دولار هدر على مدى 30 عاماً من انقطاع الكهرباء، فهل يكون هذا القرار مقدمة لتجميد الملف ليغطّ في نومٍ عميق محروساً بعين الفساد التي لا تنام؟