خسائر مصرف لبنان 62 مليار دولار

مدة القراءة 5 د

ما نعلمه جميعاً من ميزانيّات المصرف المركزي، هو أنّ موجوداته من السيولة بالعملات الأجنبية لم تنخفض عن 16.9 مليار دولار. وهو ما يُعرف بـ”احتياط العملات الأجنبيّة”، الذي يكثر الحديث عنه دوماً في الإعلام. لكنّ هذا الرقم لا يلخّص وضعيّة مصرف لبنان من الناحية الماليّة، فهذا المبلغ عمليّاً هو ما تبقّى من الأموال التي أودعتها المصارف بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان، من أموال المودعين. أمّا الفارق بين التزامات مصرف لبنان وموجوداته بالعملات الأجنبيّة، فيمثّل ما يُعرف بـ”صافي احتياطات العملات الأجنبيّة”. وحين تفوق قيمة الالتزامات بالعملات الأجنبيّة قيمة الموجودات بهذه العملات، تكون نتيجة صافي الاحتياطات عجزاً، أو فجوة ينبغي التعامل معها، وهذا ما جرى في حالة مصرف لبنان.

قبل 2019، كان التغنّي دوماً بحجم الاحتياطات المتبقّية في مصرف لبنان، من دون الالتفات إلى قيمة الالتزامات المتوجّبة مقابلها، وإلى تعاظم حجم العجز في صافي الاحتياطات. فمنذ 2015، سجّل صافي الاحتياطات عجزاً مستمرّاً ومتنامياً، أي أنّ قيمة الدولارات التي يدين بها مصرف لبنان للمصارف فاقت موجوداته المتبقّية بالدولار، وهو ما مثّل أحد أبرز أسباب أزمة السيولة التي انفجرت لاحقاً سنة 2019، والتي أدّت إلى عجز المصارف عن سداد التزاماتها للمودعين.

يشكّل هذا العجز أحد مصادر فجوة الخسائر التي يُشار إليها عند الحديث عن أزمة القطاع المصرفي، إلى جانب مصادر أخرى للخسائر كمحفظة سندات اليوروبوند، التي تملكها المصارف ومصرف لبنان. أمّا سبب تنامي العجز في صافي احتياطات مصرف لبنان، فليس سوى اعتماد المصرف على احتياطاته قبل سنة 2019 لتمويل التحويلات إلى الخارج، والدفاع عن سعر الصرف الرسميّ، بالإضافة إلى الاعتماد على هذه الاحتياطات بعد 17 تشرين الأول 2019، لتمويل استيراد السلع الأساسيّة وسلّة المواد الغذائيّة المدعومة.

قبل 2019، كان التغنّي دوماً بحجم الاحتياطات المتبقّية في مصرف لبنان، من دون الالتفات إلى قيمة الالتزامات المتوجّبة مقابلها، وإلى تعاظم حجم العجز في صافي الاحتياطات

في 2015، لم تبلغ قيمة هذا العجز سوى 1.9 مليار دولار، قبل أن ترتفع إلى 11.2 مليار في 2016، و21.7 مليار في 2017، بالتوازي مع اشتداد أزمة التحويلات إلى الخارج، وإصرار مصرف لبنان على الدفاع عن سعر الصرف وتمويل هذه التحويلات من احتياطاته.

ولعبت الهندسات الماليّة في 2016 دوراً كبيراً في تجميع أموال المصارف داخل مصرف لبنان، واستخدامها لاحقاً في تمويل التحويلات وتثبيت سعر الصرف، مساهمةً بذلك في مضاعفة حجم هذا العجز (أو فجوة الخسائر كما باتت تسمّى اليوم).

خلال الأيّام الماضية، كشفت دراسة أعدّها “بلوم إنفست” أنّ حجم العجز في صافي الاحتياطات كان قد بلغ 40.5 مليار دولار في الأسابيع الأولى من الانهيار المصرفي، في كانون الأول 2019، نتيجة تراكمات خمس سنوات من أزمة التحويلات والإنفاق من الاحتياطات لدعم سعر الصرف وتمويل التحويلات.

أمّا اليوم، بعد سنة وأربعة أشهر من حصول الانهيار المصرفي، وفي ظل الاعتماد طوال هذه الفترة على الاحتياطات لدعم استيراد السلع الأساسيّة من دون أيّ خطة حكوميّة للتصحيح الماليّ، وبغياب قانون “الكابيتال كونترول” الكفيل بضبط السيولة ومنع تهريبها، تنامى حجم العجز في صافي الاحتياطات إلى نحو 61.95 مليار دولار، أي أنّ التزامات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة باتت تفوق موجوداته بهذه العملات بهذا القدر.

يمثّل هذا العجز فجوة ضخمة في ميزانيّة مصرف لبنان، إذ إنّ قيمته باتت توازي اليوم نحو 41% من إجمالي موجودات المصرف وهي 153.7 مليار دولار. أمّا حساسيّة هذه الفجوة الضخمة، فتكمن في أنّ التزامات مصرف لبنان للمصارف بالعملات الأجنبيّة، والتي لا يملك المصرف المركزي السيولة لسدادها، تمثّل عمليّاً أموال المودعين العالقة في النظام المصرفي، فلا يكون تضخّم هذه الفجوة إلى هذا المستوى سوى تعميقٍ لأزمة المصارف مع عملائها، واستبعاد عودة الانتظام إلى القطاع المصرفي في المدى المنظور.

لعبت الهندسات الماليّة في 2016 دوراً كبيراً في تجميع أموال المصارف داخل مصرف لبنان، واستخدامها لاحقاً في تمويل التحويلات وتثبيت سعر الصرف، مساهمةً بذلك في مضاعفة حجم هذا العجز (أو فجوة الخسائر كما باتت تسمّى اليوم)

لا يمثّل هذا العجز أزمة ميزانيات مصرف لبنان الوحيدة. فوفقاً للميزانيّات، يمتلك مصرف لبنان ما يقارب 40.8 مليار دولار من سندات الدين العام المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما يمثّل حالياً نحو 26.57% من إجمالي موجوداته. وقد تراكمت قيمة محفظة السندات هذه طوال الفترة الماضية نتيجة استمرار المصرف المركزي بخلق النقد لتمويل العجز في الميزانيّة العامة، عبر الاكتتاب بسندات الدين العامّ. وفي ظلّ استمرار العجز في الميزانيّة العامّة، وعدم وجود أيّ طرف آخر مُقرِض للدولة اللبنانيّة، من المرتقب أن يستمرّ مصرف لبنان بمراكمة هذه السندات في محفظته من دون أن يتمكّن من تحصيل هذه الديون. فيما الدولة تقوم حالياً بسداد قيمة أيّ سندات مستحقّة عليها لمصلحة مصرف لبنان بالليرة عبر الاقتراض من مصرف لبنان من جديد.

إقرأ أيضاً: قانون الكابيتال كونترول: صفر ضمانات للمودعين

باختصار، باتت 67% من موجودات مصرف لبنان مستنزفة، إمّا بالخسائر التي جرت مراكمتها خلال المرحلة الماضية من دون أن تُشطَب، وإمّا بالالتزامات المتوجّبة على الدولة اللبنانيّة المتعثّرة، وإمّا بالقروض الممنوحة للقطاع المصرفي بالعملة الصعبة والتي يصعب سدادها حالياً نتيجة أزمة السيولة التي يمرّ بها القطاع.

كلّ هذه المؤشّرات لا تدلّ إلّا على ظروف مأساويّة تفاقم سوء وضع القطاع الماليّ بأسره، نتيجة مرور نحو سنة ونصف السنة على حدوث أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة التي شهدها التاريخ الحديث، من دون أن يجري التعامل مع الخسائر الناتجة عن هذا الانهيار. وبمرور كلّ يوم إضافي، تتعاظم هذه الخسائر المتراكمة، وتصبح عودة الانتظام إلى القطاع المالي أصعب وأكثر كلفة.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…