لم تقتل الحرب الأهليّة السياسة في لبنان، إذ لم يعدَم أطرافُ المعارك الوسائلَ للاتّصال بينهم بشكل أو بآخر. ولم يَحُل تبادل القصف بين الأفرقاء المتقاتلين دون تبادلهم للطروحات السياسية، بين الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية، وبين منظمة التحرير والكتائب اللبنانية. بقيَ، على الرغم من قساوة الحرب، حبل وصل بين أفرقاء النزاع كان يتفاوت بتفاوت ضراوة المعارك، ولكنّه لم ينقطع.
كانت الحرب اللبنانية تجسيداً لمقولة كلاوزفيتز (Clausewitz) عن أنّ الحرب امتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى. وهي تعني أنّ الحرب لا تنفي السياسة. وإن كانت الحرب، المصغّرة أو الكبيرة، في بلد مركّب مثل لبنان، تنتج سياقات سياسية جديدة. هكذا حصل بعد ثورة 1958، إذ كانت تلك الحرب الصغيرة إنذاراً أوّليّاً للمارونية السياسية بأنّ مسار الغلبة الذي تنتهجه لا بدّ أن ينقلب عليها، أيّاً تكن إنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية.
كما كانت تلك الثورة أولّ ارتطام للميثاق الوطني بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح بحائط التوازنات الطائفية في البلد. وبذلك أسّس هذا الارتطام لسياق سياسي جديد كانت أولى نتائجه انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية من خارج نادي الزعامات المارونية، فكان رئيساً تسوويّاً يحظى بتوافق أميركي – مصري ولا يستفزّ المسلمين اللبنانيّين.
وشُكّلت بعد “الثورة” الحكومة الرباعية، التي اقترحها العميد ريمون إدّه على الرئيس شهاب على الرغم من برودة العلاقة بينهما. وقد ضمّت، إلى إدّه، الشيخ بيار الجميّل والزعيمين المسلمين حسين العويني ورشيد كرامي. وأظهرت هذه الحكومة أنّ التقاطع الأميركي المصري حول لبنان لم يلغِ الدينامية السياسية الداخلية التي أنتجت تلك الحكومة.
كانت الحرب اللبنانية تجسيداً لمقولة كلاوزفيتز (Clausewitz) عن أنّ الحرب امتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى. وهي تعني أنّ الحرب لا تنفي السياسة
وكما ثورة 1958، كذلك حرب 1975، فكلاهما أنتجا سياقاً سياسيّاً جديداً للحكم، مع فارق أنّ حقبة ما بعد الحرب التي أدارتها اليد السورية في لبنان قلّصت كثيراً الدينامية السياسية الداخلية، لكنّها مع ذلك لم تستطع، وربّما لم تُرِد (أقلّه في حقبة الرئيس حافظ الأسد) إلغاءَها، لا من ناحية “الموالاة” ولا من ناحية المعارضة.
فمن ناحية “الموالاة” كان حافظ الأسد، بما يمتلك من دهاء سياسي، يلعب على التوازنات الداخلية من دون أن يطمسها كليّاً، أي من دون أن يلغي الحيثيّات السياسية اللبنانية. ومن ذلك أنّه لم يتعاطَ مع شخصيّة بوزن الرئيس رفيق الحريري كما لو أنّه سياسي عادي يمكن إملاء الأوامر عليه والقرارات. وإن كان الأسد شديد الحرص على إبقاء يده هي العليا في لبنان وبالوسائل المختلفة، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة اعتبار معيّن للشخصيات السياسية الرئيسة في البلد، وليس استقباله المتكرّر لها لساعات وساعات سوى دليل على ذلك.
ومن ناحية المعارضة، ولا سيّما المسيحية منها في تلك المرحلة، فإنّها بنت بالتراكم وبـ”الكشتبان” سرديّتها السياسية المعارضة للوصاية السورية، خصوصاً بعد موت حافظ الأسد وانسحاب إسرائيل من الجنوب، وبهدى من البطريرك نصرالله صفير، وصولاً إلى توسّعها لتضمّ مسلمين إليها، فانتقلت من “قرنة شهوان” إلى “لقاء البريستول”، ثمّ إثر اغتيال الحريري ومليونيّة 14 آذار 2005 استطاعت أن تجعل انسحاب الجيش السوري أولويّة لبنانية مطلقة، وكان لها ما أرادت في نيسان من العام نفسه.
كلّ تلك المحطّات، قبل الحرب وبعدها، وقبل اغتيال الحريري وبعده، كانت تؤكّد دائماً وجود دينامية سياسيّة داخلية، تتقاطع مع ديناميات إقليمية ودولية بالتأكيد، ولكنّ ذلك لم ينفِ حضورها وتأثيرها في مجرى الأحداث.
لكن منذ تسوية عام 2016، التي سُميّت “تسويةً” تضليلاً لحقيقتها الأصلية، أي كونها إطباقاً على البلد من قبل جهة رئيسة هي حزب الله، وجهة تابعة له هي التيار الوطني الحرّ، وبينهما جهة مغلوبة أو مغلوب على أمرها هي تيار المستقبل… منذ تلك التسوية تأكّد موت السياسة في لبنان.
كانت تلك التسوية نتيجة للموت البطيء للسياسة في لبنان، إذ هي قامت على نقيض السياسة، أي على الغلبة المطلقة لفريق على الأفرقاء الآخرين. لكنّ هذه الغلبة المتراكمة منذ 7 أيّار 2008 ما كانت لتستطيع أن تسود وتتوسّع لو أنّ الأفرقاء السياسيين المناوئين لها رفضوها رفضاً حقيقيّاً، أو لو لم يتعامَلوا معها كما لو كانت أمراً واقعاً يبقى التطبيع معه أقلّ كلفة عليهم من رفضه، ولو كان ذلك على حساب ما تبقّى من مقوّمات سياسية واقتصادية واجتماعية للبنان.
من ناحية “الموالاة” كان حافظ الأسد، بما يمتلك من دهاء سياسي، يلعب على التوازنات الداخلية من دون أن يطمسها كليّاً، أي من دون أن يلغي الحيثيّات السياسية اللبنانية
بذلك نجح الحزب في طمس الحياة السياسيّة اللبنانية وتعطيل أي دينامية سياسيّة داخلية قادرة على التأثير في مجرى الأحداث، مستفيداً من شبق الأفرقاء السياسيين للسلطة بغية الاستفادة من جنّة الفساد داخل الدولة وعلى هوامشها. فهو إذ أسبغ عليهم مواقع النفوذ تركوا له القرار بكلّيته، وهو ما أدّى في نهاية الأمر إلى تحلّل غير مسبوق في هيكلية المؤسسات الدستورية التي أصبح القرار السياسي خارجها كلّياً. ولم يعد المسؤولون، بدءاً من أعلاهم، سوى متلقّين لذلك القرار الذي يُصنع خارج الدولة. وليس أدلّ على ذلك من فضيحة تعاطي العهد مع ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. إذ ما كان هذا العبث بمصالح لبنان ليحصل لولا غطاء (أو أقلّه غضّ طرف) الحزب المعنيّ مباشرة بهذا الملفّ، الذي لم يَعُد سوى ورقة من أوراق إيران في لبنان تحرّكها في التوقيت المناسب.
هكذا صرنا بإزاء أزمة وطنية بامتياز لا أزمة سياسية وحسب. فالأزمة السياسية، المتمثّلة بعدم تشكيل الحكومة، هي نتيجة للأزمة الوطنية المتمثّلة بتحكّم ذهنيّة الغلبة بالفريق الحاكم، أي الحزب والعهد، وبغياب أي دينامية معارضة قادرة على دحض هذه الغلبة أو أقلّه منعها من الغلوّ.
لكنّ الطامة الكبرى أنّ راديكالية الثنائي الحاكم تترافق مع انحدار غير مسبوق في الأداء السياسي للحكم الذي يتعاطى مع المشكلات الكبرى من منظور ضيّق وخاص لا من منظور المصلحة العليا للدولة والمجتمع. وهو انحدار بات يطول مجمل الحياة السياسية، إلى درجة أنّ لبنان لم يعد على الخريطة السياسية الإقليمية والدولية إلّا بوصفه متلقّياً للمتغيّرات الحاصلة فيها، إذ لم يعُد له أيّ رأي أو تأثير في مجرياتها. حتّى حزب الله، الذي يعدّ نفسه اللاعب الأقوى في لبنان، والذي روّج منظّروه خلال السنوات الماضية أنّه بات لاعباً إقليمياً، فقد تبيّن أنّه متأثّر أكثر بكثير ممّا هو مؤثّر في تطوّرات المنطقة، ويمكن الاستدلال على ذلك بوضوح من خلال قراءة زيارة وفده موسكو أخيراً… في الشكل والمضمون.
صرنا بإزاء أزمة وطنية بامتياز لا أزمة سياسية وحسب. فالأزمة السياسية، المتمثّلة بعدم تشكيل الحكومة، هي نتيجة للأزمة الوطنية المتمثّلة بتحكّم ذهنيّة الغلبة بالفريق الحاكم، أي الحزب والعهد، وبغياب أي دينامية معارضة قادرة على دحض هذه الغلبة أو أقلّه منعها من الغلوّ
الأزمة الوطنية الكبرى تتمثّل إذاً في غياب حضور لبنان وصوته عن كلّ ما يحصل من تطوّرات حوله. فلا الحكم ولا معارضوه، ولا الحزب طبعاً، في وارد نقل تصوّر للمصالح الوطنية اللبنانية إلى دوائر القرار والحوار في المنطقة. فهم إمّا مصنّفون على لوائح الإرهاب وإمّا موضوعون على لوائح الفساد و”العرقلة” وإمّا مهدّدون بها. أضف إلى ذلك أنّ هناك شكّاً كبيراً في شرعيّتهم الشعبية منذ 17 تشرين الأول من عام 2019. لكن حتّى المجموعات المنبثقة من 17 تشرين ذاك تأخذ أشكالاً ساذجة أو كاريكاتورية عندما تخاطب الخارج.
إقرأ أيضاً: الوعي المسيحي الجديد: إمّا نحن وإمّا أنتم…
هذا كلّه يعمّق عزلة لبنان الموحشة التي، ويا للمفارقة، تؤكّدها زيارات سياسيّيه إلى الخارج، والتي باتت مضرب مَثَل، لا في قلّة الكفاية السياسية للقائمين بها وحسب، بل في وقاحتهم السياسيّة والإعلامية أيضاً.
وفي مَثَلٍ أهمّ وأفظع فإنّه، على الرغم من مرور أكثر من أسبوع على منع المملكة العربية السعودية دخول الصادرات الزراعية اللبنانية إلى أراضيها بعد استخدامها لتهريب المخدِّرات، لم يزُر (أو يفكّر) أيّ مسؤول لبناني حتّى الآن الرياض في محاولة لمعالجة هذه المشكلة التي تهدّد أمن السعودية وتلحق ضرراً بالمزارعين اللبنانيين وبالاقتصاد اللبناني. ويَصلحُ هنا تذكّر زيارة العميد ريمون إدّه دمشق عام 1973 للطلب من الأسد إعادة فتح الحدود اللبنانية السورية بعد إغلاقها إثر المعارك بين الجيش والمنظمات الفلسطينية عام 1973.
ويكفي هذا التذكّر للدلالة على حجم الانحدار السياسي في لبنان ودرجة العبث بالمصالح العليا للبنان.
[VIDEO]