تبدو المسوّدة، التي وضعتها لجنة المال والموازنة لاقتراح قانون “الكابيتال كونترول”، أقرب إلى المسرحيّة الهزليّة، فهي لا تتّسم بالجديّة، ولا تبدو أنّها معدّة للإقرار.
إنّها المسرحية الثالثة لتشريع القيود على التحويلات والسحوبات، بعد مشروع القانون، الذي قدّمه وزير المال في الحكومة المستقيلة غازي وزني في آذار من العام الماضي، قبل أن يسحبه عن طاولة مجلس الوزراء لاحقاً، واقتراح القانون الذي قيل إنّ التيار العوني وحركة أمل توافقا عليه في أيّار من العام الماضي، أي قبل سنة تقريباً.
ما لم يتغيّر عن الاقتراح والمشروع السابقين، هو السقف المقترح للتحويلات إلى الخارج، وهو 50 ألف دولار سنوياً، ولو أنّ النقاشات الجارية قد تفضي إلى خفضه.
لكنّ الجديد في المسوّدة هذه المرّة، وهو الأهمّ للمقيمين، هو السحب النقدي من الودائع، بالدولار والليرة اللبنانية، وهو ما لم ينصّ اقتراح أيّار الماضي على أيّ قيود في شأنه، فيما تركه مشروع وزير المال غازي وزني لتعاميم مصرف لبنان.
تقترح المسوّدة في هذا الصدد السماح بالسحب من الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية، وفق سعر صرف يُحدَّد وفق معادلة معيّنة بالنسبة إلى سعر المنصّة الموعودة، التي يفترض بمصرف لبنان أن ينشئها، وبحدٍّ أقصى 20 مليون ليرة شهرياً، وبنصف هذا المبلغ بالدولار، أي ما قد يكون قريباً من ألف دولار شهريّاً.
ما لم يتغيّر عن الاقتراح والمشروع السابقين، هو السقف المقترح للتحويلات إلى الخارج، وهو 50 ألف دولار سنوياً، ولو أنّ النقاشات الجارية قد تفضي إلى خفضه
إلا أنّ الحديث عن إعادة السحوبات بالدولار يبدو أقرب إلى المزحة السمجة. هل مِن أحدٍ يصدق حقّاً أنّ بإمكان البنوك العودة إلى فتح باب السحوبات النقدية للدولار الآن، بعد خراب البصرة؟
إذا كانت البنوك قد أعلنت عجزها عن ذلك حين كانت موجوداتها الأجنبيّة تفوق 21 مليار دولار (في تشرين الأول 2019)، وحين كانت احتياطات النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان تفوق 31 مليار دولار، فكيف تعطي زبائنها الدولارات الورقية بعدما أصبحت حساباتها لدى البنوك المراسلة مكشوفة، وبعدما فشلت في تطبيق التعميم رقم 154؟
النقاش الجاري حاليّاً بين البنوك ولجنة المال والموازنة النيابية ملؤه النفاق، وليس إلّا مضيعةً للوقت. تقول البنوك إنّ تكلفة الاستثناءات من حظر التحويلات قد تصل إلى 900 مليون دولار سنويّاً، فيما تقدّرها اللجنة المتفرّعة عن لجنة المال والموازنة بنحو 350 مليون دولار. وعلى هذا الأساس تقترح البنوك خفض سقف التحويلات المستثناة من 50 ألف دولار إلى 20 ألفاً فقط.
يبقى أنّ المسألة ليست في التكلفة الإجمالية، بل في عدد البنوك القادرة على الصمود في وجه طلبات التحويل حين تصبح ملزمة بتنفيذها بحكم القانون، لا مطلقة اليد للاستبداد بالعملاء، كما هو الحال راهناً. هنا مكمن النفاق. قد تستطيع بضعة مصارف، ولا سيّما تلك التي تدبّرت أمورها بتسييل أصول خارجية، الصمود لبضعة أشهر بعد إقرار القانون، لكن من دون أدنى شكّ ستنهار، خلال أسبوع واحد، بنوكٌ ذات أسماء كبيرة، وأصحابها من أبناء المنظومة الحاكمة، ويظهر عندئذٍ الوجه الحقيقيّ لأشباح البنوك.
هذا لن يحدث ما دامت المنظومة حيّةً في السياسة.
كان يمكن للنقاش أن يكون جدّيّاً لو أنّ للقانون موضوعاً. فتشريع القيود على حركة رؤوس الأموال له معنى حين يكون في القطاع المصرفي بعضٌ من العملة الصعبة. كان مفهوماً أن يجتمع مجلس النواب، صباح اليوم التالي لثورة 17 تشرين، لإقرار قانون من مادة واحدة لمنع البنوك من العبث بموجوداتها الأجنبية، ريثما تضع الحكومة، أيّ حكومة، خطّتها للخروج من الأزمة. لكن لم يعد للقانون معنى الآن، بعدما هرّب المحظيّون ومديرون كبار في البنوك أموالهم تحت أنف مصرف لبنان.
النقاش الجاري حاليّاً بين البنوك ولجنة المال والموازنة النيابية ملؤه النفاق، وليس إلّا مضيعةً للوقت
منذ 17 تشرين الأول 2019، انخفضت احتياطات مصرف لبنان إلى النصف تقريباً، من 31 مليار دولار إلى 17.5 مليار دولار بنهاية شباط 2021، وربّما يكون الآن في حدود 16 مليار دولار أو أكثر من ذلك بقليل. ولا حاجة إلى القول إنّ هذه الأموال لم تذهب كلّها للدعم ولا لتوفير العملة الصعبة للاستيراد، بأيّ سعر كان. فمجمل فاتورة الاستيراد في 2020 لم تصل إلى 11 مليار دولار، ولا شكّ أنّ جزءاً وافراً منها مُوِّل من السوق، من موارد متعدّدة، أهمّها عوائد التصدير، التي تجاوزت 3.5 مليارات دولار، وتحويلات المغتربين التي تصل إلى 8 مليارات دولار.
هذا يشير إلى أنّ الانخفاض الكبير للاحتياط الأجنبي لدى مصرف لبنان له سبب آخر هو سداد الاستحقاقات والفوائد للبنوك، وبالتالي توفير الدولارات للبنوك لتقوم بعمليات تهريب الأموال، بدليل أنّ ودائع البنوك لدى مصرف لبنان انخفضت انخفاضاً كبيراً في الأشهر الماضية، لتقف في آخر البيانات عند 107 مليارات دولار (الإجمالي بالدولار والليرة)، بعدما كانت تقارب 118 مليار دولار مطلع العام الماضي، وفق بيانات جمعية المصارف.
اللغز الأكبر يكمن في انخفاض موجودات العملات الأجنبية لدى البنوك من 21.3 مليار دولار قبل اندلاع ثورة 17 تشرين إلى 14.1 مليار دولار في كانون الثاني الماضي. فتكون قد هبطت بأكثر من 7.2 مليارات دولار خلال 16 شهراً. ونصف هذا الانخفاض حدث في الأشهر الثلاثة الأولى من الأزمة، أي بين تشرين الأول وكانون الأول 2019.
ما الذي يبرّر أو يفسّر هذا الانخفاض إذا كانت البنوك لا تشارك بدولار واحد في تمويل الاستيراد لعملائها التجّار، وتلقي كل هذا الحمل على مصرف لبنان وسوق الصرّافين؟ لا شيء يفسّر رقماً بهذه الضخامة سوى التحويلات إلى الخارج، وبتعبير أدقّ، تهريب أموال المحظيّين من أصحاب الواسطة الخارقة.
البنوك تقول الآن إنّ حساباتها لدى البنوك المراسلة منكشفة بنحو 1.7 مليار دولار، وإنّها عجزت عن تطبيق التعميم الـ154 في شقِّه المتعلّق بتوفير حسابات حرّة من الالتزامات لدى البنوك المراسلة تعادل 3% من الودائع بالعملات الأجنبية.
إذاً، ما الأموال التي يُناقَش قانون “الكابيتال كونترول” من أجلها؟
المشاركون في النفاق الجاري في لجنة المال والموازنة يدركون أنّ إقرار “الكابيتال كونترول” بهذه الصيغة يستلزم إمّا التواطؤ لعدم تطبيقه، كما كان مصير قانون الدولار الطالبي، لكن على نطاق أكبر، وإمّا إفلاس عشرات المصارف.
وتماماً كما بلع مصرف لبنان كلّ كلامه السابق عن معاقبة البنوك التي لا تنفّذ التعميم الـ154 في مهلة أقصاها نهاية شباط الفائت، فإنّ السلطة في مستواها الأعلى ليست قادرةً أو راغبةً بإخراج أيّ بنك من السوق، أقلّه لأنّ الأمر يرتبط باستحقاق أهمّ تجاه الرأي العام، وهو الاعتراف بأنّ المودعين خسروا أموالهم.
ما الذي يبرّر أو يفسّر هذا الانخفاض إذا كانت البنوك لا تشارك بدولار واحد في تمويل الاستيراد لعملائها التجّار، وتلقي كل هذا الحمل على مصرف لبنان وسوق الصرّافين؟
الخطير في الأمر أنّ قلّة فقط من البنوك القائمة ما زالت تؤمن ببقائها وتقاتل لأجله، فيما بنوك كثيرة (جدّاً) تحوّلت الأمور داخلها إلى حفلة نهب للودائع قبل الحريق الكبير.
إقرأ أيضاً: قانون الكابيتال كونترول: صفر ضمانات للمودعين
القصص كثيرة عن عمليات تهريب أموال إلى الخارج يمارسها المديرون والمساهمون. ويصل الأمر ببعض البنوك إلى حدّ تزوير فواتير المصاريف للاستيلاء على أموال البنوك. تلك البنوك لا تريد اتّفاقاً مع صندوق النقد يضعها أمام حقيقة وضعها المُفلس، ولا تريد “كابيتال كونترول” للسبب ذاته، وهي تحارب لاستمرار سلطتها الاستنسابية لأطول وقت ممكن. وعندما تأتي لحظة الحقيقة سيكون الخطاب جاهزاً للمودعين: “اذهبوا إلى الدولة ومصرف لبنان، فأموالكم هناك”.
وبينما لحظة الحقيقة لم تحِن بعد، وأصحاب البنوك ليسوا جاهزين لانكشاف وجه “الزومبي” الذي يخفونه، لن يسمح حلفاؤهم في مجلس النوّاب بإقرار تشريع جدّيّ يُنهي اللعبة.