هواجس الربح وتعويض الخسائر والحفاظ على القدرة الشرائية للمدّخرات لا تغيب عن خاطر اللبنانيّين. الكلّ يبحث عن طريقة للاحتفاظ بالـLlifestyle، أو في أضعف الإيمان، يسعى إلى منع انحداره من طبقة إلى طبقة أشدّ فقراً.
بعضٌ من هؤلاء المتوجّسين وجد في الاستثمار بالعملات الرقميّة وسيلةً لمحاولة الربح، أو نافذةً لتعويض الخسائر التي مُنيت بها مدّخراته نتيجة احتجاز الأموال في المصارف أو إفلاس مؤسسة من هنا أو ضياع فرصة عمل من هناك بفعل الأزمة الاقتصادية.
تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي بأسئلة الشباب الباحث عن العملات الافتراضية وكيفيّة بيعها وشرائها، أو للاستفسار عن أفضل جهاز كمبيوتر لعملية استخراجها (التعدين)، أو عن أنسب مواصفات وأفضل سعر لمعالج معلومات (GPU) يمكن شحنه إلى لبنان.
لكن قبل الخوض في تفاصيل هذا “العالم المعقّد”، لا بدّ من تعريف ثلاثة مصطلحات “مفتاحيّة”، وإلّا بقيت العملات الرقميّة وآليّات الاستثمار فيها أحجيةً لدى القارىء.
أوّلاً، “العملة الرقميّة”: هي ألغاز رياضية في سجلّ بيانات افتراضيّ، لا وجود لها خارج الإنترنت، ولا تملك جنسيّة ولا وجوداً مادّيّاً. تُستخدم في الدفع عبر الإنترنت والمعاملات التجاريّة، وفي تحويل الأموال من دون عوائق أو استفسارات أو مستندات أو قيود، وهدفها إلغاء فكرة الوسيط أو الطرف الثالث بين الشاري والبائع.
ثانياً، “سلسلة الكتل” أو Block chain: وهي “دفتر الحسابات” الإلكتروني الذي تُدوَّن فيه كلّ العمليّات. هي تشبه “كاتب عدل” افتراضيّاً يدوّن معلومات البيع والشراء وبيانات المستخدمين لديه. لا يمكن التلاعب بسجلّاته أو العبث بها، لأنّ كل مستخدم حول العالم يملك نسخة من هذا “الدفتر”، وأيّ إضافة إلى “السجل” تُدرج تلقائيّاً في كل نسخة بواسطة الإنترنت، ولهذا فالتلاعب بها مستحيلٌ.
ثالثاً، التعدين (Mining): مشتقّة من عمليّة استخراج المعادن الثمينة من المناجم، وهي آليّة حلّ العمليات الرياضية، والمعدِّنون يتنافسون من أجل الوصول سريعاً إلى إنتاجها وإضافة بيانات “السلسلة”، وبالتالي إنتاج العملة، وذلك مقابل حصولهم على مكافأة تكون نسبة من العملة التي يعدِّنونها. وبتعبير مبسّط، يمكن تشبيه العملة الرقميّة بوحدات الهاتف الخلويّ أو “دولارات” التي يمكن نقلها من هاتف إلى آخر من دون معرفة المصدر، إذا كنّا لا نعرف من يملك الرقم المرسِل.
تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي بأسئلة الشباب الباحث عن العملات الافتراضية وكيفيّة بيعها وشرائها، أو للاستفسار عن أفضل جهاز كمبيوتر لعملية استخراجها (التعدين)، أو عن أنسب مواصفات وأفضل سعر لمعالج معلومات (GPU) يمكن شحنه إلى لبنان
ويستهلك إنتاج هذه العملات طاقةً كهربائيّةً على نحوٍ مخيفٍ، فكلّما ارتفع سعرها اجتذبت المعدِّنين الذين يميلون إلى تطوير أجهزتهم من أجل القيام بملايين العمليات، فيؤدّي ذلك إلى صرف ملايين الكيلواطات الكهربائية بما قيمته مئات آلاف الدولارات.
وبحسب الإحصاءات، فإنّ “بيتكوين” واحداً (العملة الأشهر حول العالم) بات بحاجة إلى 72 ألف ميغاواط من الطاقة لتعدينه (حاجة لبنان نحو 4000 ميغاواط). وقد ذكرت تقارير متخصّصة بالعملات الرقميّة أنّ شبكة “بيتكوين” منفردةً استهلكت في عام 2020 نحو 120 ميغاواط في كل ثانية واحدة من السنة.
ربّما طموحات الناس حول العالم وسعيُهم إلى الربح يفسّران سبب انفجار هذه العملات. يقول مركز Statista الأميركي للإحصاءات إنّ عددها كان قرابة 66 عملة عام 2013، وأصبح مع نهاية شهر شباط الفائت 4501 عملة بقيمة نحو 2 تريليون دولار، تهيمن 20 عملة منها على 90% من السوق.
لكنّ الساعين في لبنان إلى الاستثمار بها أغلبهم مضلَّل، إذ يأخذون هذه العملات على ظاهرها، ويظنّون أنّ الدولارات ستُجنى منها مثل جني الثمار من الأشجار نتيجة شرائها بأسعار بخسة، ثمّ الانتظار حتّى يرتفع سعرها إلى آلاف الدولارات، على غرار “بيتكوين” التي انتقل سعرها من نحو دولار واحد في 2009 إلى أكثر من 50 ألف دولار اليوم.
لكن بعيداً من الطموحات والأماني، ثمّة حقائق حول العملات الرقمية لا بدّ من التعرّف إليها، خصوصاً في لبنان. أسئلة من صنف: أين تُتَداول هذه العملات؟ ومن هي الجهات التي تقف خلفها؟ وهل هي عملية مربحة أو مجرّد دعايات؟
يقول خبير الإلكترونيات المهندس محمد برجاوي إنّ بعض المهتمّين اللبنانيّين “بدأوا عمليات التعدين، لكنّهم ربّما بدأوا متأخّرين جدّاً جدّاً”، لثلاثة أسباب:
أوّلاً، لأنّ المعدّات باتت أسعارها باهظة جداً قياساً إلى سعر صرف الدولار، فأرخص جهاز تعدين كلفته نحو ألفيْ دولار. وتحتاج عمليات التعدين المربحة إلى المئات منها بل الآلاف، وأمّا التعدين في لبنان اليوم فمردوده بالقروش والسنتات ولا طائل منه.
ثانياً، لأنّ سوق “بيتكوين” الباهظ الثمن، بات “مشبّعاً ولم يتبقَّ الكثير لتعدينه”، فخوارزمية “بيتكوين” مبرمجة لتعدين 21 مليون وحدة فقط، وهذا يعني أنّ التعدين سيأتي بمردود متواضع طالما أنّ ما تبقّى منها ليس أكثر من 2.3 مليون وحدة.
ثالثاً، “ضعف الطاقة الكهربائية والإنترنت”، فلبنان بلد غير قادر على سدّ حاجته من أجل الإنارة… فكيف بالتعدين؟ أمّا الإنترنت فحدّث ولا حرج، ولهذا ستبقى عمليّات التعدين “في حدود الهواية والتسالي”.
بعيداً من الطموحات والأماني، ثمّة حقائق حول العملات الرقمية لا بدّ من التعرّف إليها، خصوصاً في لبنان. أسئلة من صنف: أين تُتَداول هذه العملات؟ ومن هي الجهات التي تقف خلفها؟ وهل هي عملية مربحة أو مجرّد دعايات؟
أمّا عن الجهات التي تقف خلف هذه العملات، فيؤكّد برجاوي أنّها قد تكون “شركات أو أفراداً، أو ربّما مافيات… لا فرق”، فكلّ فرد يملك القدرات التكنولوجيّة يمكنه أن ينشىء عملة رقمية خاصّة به، لكنّها ستبقى هامشية وسخيفة وذات قيمة معدومة “إن لم يُقبِل الناس على تعدينها والتداول بها”.
وعن آليّات تحديد سعر العملات الرقميّة، يؤكّد برجاوي أنّها كسائر السلع والعملات “خاضعة لمبدأ العرض والطلب”، فترتفع إلى مستويات ضخمة بسبب الطلب عليها في مقابل شحّها وعددها المحدود، ولهذا يمكن القول إنّها عملة “غير قابلة للانكماش وتقاوم التضخّم”، خصوصاً إذا أحسن مطوّروها الموازنة بين المطلوب والمعروض، لكن متى فقد الناس ثقتهم بها أو انصرفوا إلى عملة أخرى جديدة، أو باعوها من أجل الاستثمار في أمور أخرى وأهملوها، فإنّ مصيرها سيكون الاندثار… ولا يُستبعد أن تعود قيمتها إلى صفر.
تجربة نافع سعد في لبنان
أمّا نافع سعد، وهو شخص مهتمّ بالعملات الرقميّة، فيشرح لـ”أساس” أنّ عمليّات البيع والشراء تحصل على منصّة اسمها “محفظة تبادل أو Wallet exchange”، وأنّ كل عملة لها محفظتها الخاصّة، يشتريها الناس بواسطة البطاقة الائتمانية المصرفية، ويكون المشتري أمام 4 خيارات: الشراء، المبيع، التحويل، أو السحب.
الربح الناتج عن المضاربة يمكن تحصيله بواسطة البطاقة الائتمانية نفسها من خلال تحويل العملة الرقميّة إلى دولارات بطريقة معاكسة، إلاّ أنّ هذا الأمر “غير متوافر في لبنان لأنّ البنوك ترفض التعامل بها مثل الكثير من البنوك حول العالم”، ولكنّ هناك بدائل، فـ”بعض الصرّافين أو المضاربين في لبنان يشترون هذه العملات بالدولار الكاش، وذلك لقاء نسبة تكون بحدود 2%”.
هي كسائر السلع والعملات “خاضعة لمبدأ العرض والطلب”، فترتفع إلى مستويات ضخمة بسبب الطلب عليها في مقابل شحّها وعددها المحدود، ولهذا يمكن القول إنّها عملة “غير قابلة للانكماش وتقاوم التضخّم
نسأل سعد عن عمليّات التعدين التي يقوم بها، فيقول إنّها “تحقّق نحو 12 دولاراً يوميّاً”، وذلك بواسطة جهازيْ كمبيوتر، كلفة الواحد منهما قرابة 2000 دولار، كاشفاً أنّ “قبل سنة كان يمكن استعادة رأس المال في غضون 90 يوماً”، أمّا اليوم “فبات الأمر بحاجة إلى سنة كاملة”، وذلك بسبب زيادة عدد المعدِّنين. هذا من دون احتساب رسوم فاتورة الكهرباء، إذ يكشف أنّ الجهاز الفعّال الواحد يستهلك قرابة 2000 واط من الكهرباء، أي بحجم استهلاك سخّان الماء. لكنّ وجود سعد في منطقة تتغذّى بـ”تيّار مطمر الناعمة المجانيّ” يخفّف من التكاليف، فيخبرنا سعد أنّه يدفع في المقابل “فاتورة مزدوجة للإنترنت لأنّه ضعيف وانقطاعه مضيعة للوقت والمال”.
إقرأ أيضاً: بنج الكابيتال كونترول: دولار الودائع… بـ10 آلاف
إذاً نكتشف، في عمليّة حسابيّة، أنّ الربح يعادل تقريباً رأس المال، إلاّ أنّ الرهان معلّق على ارتفاع سعر العملة. يضرب سعد مثلاً أناساً حصلوا على مكافآت وصلت إلى 5 وحدات “بيتكوين” في غضون 3 سنوات من التعدين، وكانت قيمتها 3000 دولار في حينه، وأمّا اليوم فصارت نحو 250 ألف دولار، ولهذا يميل سعد إلى الاعتقاد بأنّ العملات في طريقها إلى مزيد من الارتفاع، ويعتبر أنّ ما يقوم به هو “استثمار طويل الأمد”، ناصحاً المهتمّين، وخصوصاً القادرين على تحمّل التكاليف بـ”عدم المضاربة من خلال الشراء والمبيع لأنّها مخاطرة كبرى”، بل بـ”التعدين، لأنّه أفضل، ومخاطره أقلّ، ومعدّاته تحافظ على ثمنها ويمكن بيعها متى تخلّى المعدِّن عن الفكرة أو أراد تحديثها”.
كلّ ما تقدّم يجعل الرهان على العملات الرقميّة من أجل تحقيق الأرباح “ضربة حظ”، مقامرةً تعتمد على مزاج الناس وميولهم إلى التداول، وهو أمر قد لا يسلم منه إلاّ من يعتمد مبدأ “اضرب واهرب”، خصوصاً إن كان الأمر مقتصراً على شراء العملات والانتظار طويلاً.
أمّا اللبنانيّ الطامح والباحث عن فتات الدولارات وسط هذه الزحمة من الإمكانات والقدرات حول العالم، فيبدو أنّه سيبقى مثل ذاك الذي “ينفخ على اللبن بسبب حرقته من الحليب”!