سجعان قزّي (1): كاتانغا.. المبشّر بالحياد

مدة القراءة 10 د

منذ فتوّته عاشر سجعان قزّي الكبار وصادق القادة وأحبّ الناس العاديّين. وفي حقبة السبعينيّات والثمانينيّات كان يوجد كبار وقادة وعظماء. تعرّف إلى مؤسّس حزب “الكتائب اللبنانيّة” بيار الجميل من خلال والده، وكان يبلغ ستة أعوام، وإلى بشير الجميّل رئيس الجمهورية الأسبق في السادسة عشرة من العمر. واكبَ شخصيّات كثيرة، بعضهم لا يملك خامة القادة. ومع جميع هؤلاء رفض الانصياع والطاعة العمياء. هو المتمرّد حتّى على نفسه، إلا أنّ عينيه تدمعان أمام ثلاث كلمات: أمي وأبي وبشير.

يتميّز سجعان قزّي بسرعة البديهة: ذات يوم من عام 1977، بينما كان يفاوض، باسم بشير الجميل، أبو أياد نائب رئيس حركة فتح، وباسل عقل أحد قياديّيها، في السفارة الكويتية في منطقة بئر حسن، طوّقَت منظمة “الصاعقة” السوريّة مكان الاجتماع. فلمعَت فكرة في ذهن سجعان، الشاب المفاوض: طلب من سفير الكويت، عبد الحميد البعيجان، مستضيف الاجتماع، أن يسمح له بوضع العلم الكويتي على سيّارته الرسميّة وكأنّ السفير ينطلق في مهمّة، فاستقلّها قزّي تاركاً مرافقيه في الخارج، فظنَّ عناصر الصاعقة أنّ الاجتماع مستمرّ، فيما كان قزّي وصل سالـماً إلى بيت الكتائب بالأشرفية، وأفشل عملية القبض عليه.

في عام 1984، وتحديداً في 6 شباط الشهير، اختطفت عناصر مجهولة سجعان قزّي على طريق المطار وهو عائد من مهمّة في واشنطن. قاوم مختطفيه وأفلت منهم ووصل إلى مركز الجيش قرب مطار بيروت، لكنّ عناصر من “حركة أمل”، يفوق عددهم العشرين، وصلوا إلى مركز الجيش، وتمكّنوا من خطفه مجدّداً تحت أنظار الجيش، واقتادوه إلى عمق الضاحية الجنوبيّة. أثناء احتجازه، عرض عليه أحد الخاطفين فنجان قهوة فاعتذر وطلب زجاجة عصير مقفلة ليتأكّد أن لا مادّة تخدير أو سمّ في ما يتناوله. تدخّل الرئيس نبيه بري وأطلق سراح قزّي، ثمّ استقبله في منزله في شارع بربور خلف كورنيش المزرعة.

يتميّز سجعان قزّي بسرعة البديهة: ذات يوم من عام 1977، كان يفاوض، باسم بشير الجميل، أبو أياد نائب رئيس حركة فتح، وباسل عقل أحد قياديّيها، في السفارة الكويتية في منطقة بئر حسن

 

المتمرّد منذ يفاعته 

على شاكلة هذه المبارزات التي شهدتها الحرب، أمضى قزّي حياته الغنيّة بتجارب ومخاطر تصلح للتدوين في كتاب: صحافي في جريدة “العمل” في الثامنة عشرة، مسؤول مصلحة الإعلام في حزب الكتائب في العشرين، رئيس قسم الأخبار في إذاعة “صوت لبنان” في الثالثة والعشرين، مسؤول الشعبة الخامسة في القوّات اللبنانية سنة 1976، مؤسّس إذاعة “لبنان الحر”، إذاعة “المقاومة اللبنانيّة”، في السادسة والعشرين، وأدارها بين عاميْ 1978 و1985، ومستشار الرئيس بشير الجميّل وكاتب خطاباته حتّى استشهاده عام 1982، مؤسّس نشرة “تحليل استراتيجي حول الشرق الأوسط” (MIB) في باريس في الثالثة والثلاثين. في باريس، التي سافر إليها في 17 كانون الثاني سنة 1986 بعد تعرّضه لمحاولتيْ اغتيال بعد “الاتّفاق الثلاثي”، نجح في أن يصبح مستشاراً في المخاطر السياسية لكبرى الشركات الصناعيّة العاملة في مجالات الدفاع والطيران والنفط والإنشاءات العامّة. وعُيِّن بين عاميْ 1991 و1998 خبيراً لشؤون الشرق الأوسط في “الأمانةِ العامّةِ للدفاعِ الوطنيِّ” التابعة لرئاسة الحكومة الفرنسيّة. وكان منزله الباريسيّ ملتقى كبار المسؤولين الفرنسيّين والصناعيّين ورجال الأعمال والصحافيّين.

ولمّا عاد إلى بيروت عام 2000 بعد غياب 15 سنة في فرنسا، استعاد نشاطه في حزب “الكتائب اللبنانيّة”، فكان المستشار السياسيّ للرئيس أمين الجميّل، ثمّ المرشّحَ للنيابة في كسروان ــ الفتوح ضدّ اللائحة التي رأسها الجنرال ميشال عون، ثم انتُخب نائباً لرئيس حزب الكتائب، ثمّ عيِّن وزيراً للعمل بين عاميْ 2014 و2016 في حكومة رأسها الرئيس تمّام سلام.

على شاكلة هذه المبارزات التي شهدتها الحرب، أمضى قزّي حياته الغنيّة بتجارب ومخاطر تصلح للتدوين في كتاب

على الرغم من الانسجام في الخيارات الوطنيّة الاتّحاديّة بينه وبين سامي الجميل، والمحبّة التي يكنّها له، اختلف سجعان معه لـمّا تسلّم رئاسة الحزب من والده وقرّر فجأة الخروج من الحكومة. رفض قزّي الاستقالة من الحكومة لأنّه لم يقتنع بها، ولأنّ القرار اتُّخذ من دون استشارته. يومئذٍ أطلق سجعان عبارته: “في العشرينيّات كنت أشارك في القرارات مع بشير الجميل، وفي الستينيّات لن أنفّذ قراراً لم أشارك فيه مع سامي الجميّل”. فكانت القطيعة مع “فتى الكتائب” وفُصِل السياسيّ المتمرّد، واختار الشيخ سامي مستشارين من جيله في محاولة يائسة لاستمالة ما كان يسمّى بمجموعات المجتمع المدني.

 

البطريرك يستشيره… لكنّه ليس مستشاره

أُعجب البطريرك الماروني بشارة الراعي بفكر سجعان قزّي مقدّراً كتاباته وآراءه وتحليلاته في القضايا السياسية، ونشأت بينهما، خصوصاً منذ عام 2019، علاقة تقدير ومحبة متبادلين. يبتسم سجعان قزي حين نسأله: هل أنت مستشار للبطريرك؟ فيقول: “غبطة البطريرك يستشيرني أحياناً، لكنّي لست مستشاره. في بكركي لا يوجد مستشارون”. لكنّ الجميع يدرك أنّ قزّي وضع طاقاته الفكرية والسياسية كلّها في خدمة البطريرك، وأنّه يعمل معه على مشروعيْ الحياد والمؤتمر الدوليّ. أكثر ما يحرص عليه قزّي هو استقلاليّته السياسية والفكرية لكي يحتفظ بحرّية الكتابة والتعبير والموقف، فلا يعتبر قرّاؤه أنّ ما يقوله ويكتبه يعبّر دوماً عن رأي البطريرك. يتحاشى قزّي إحراج البطريرك بمواقفه، ويتحاشى أيضاً عيون الحسّاد والغيارى… ومهما نفى سجعان قزي وأصرّ أنّه ليس مستشاراً للبطريرك الراعي، فهاتفه لا يستكين، إذ كانت تنهال عليه طوال اللقاء معه اتصالاتٌ يستفسر أصحابها من السياسيّين والمحازبين والإعلاميّين والأصدقاء، عن آخر المستجدّات…

وحين نسأله: “إذن أنت لا تزال فتى الكتائب؟”، يجيب: “لم أعد فتى، ولم تعد الكتائب الحزب الذي عرفته وناضلت في صفوفه خمسين سنة في العزّة والكرامة. فهذا الحزب كان من أعظم الأحزاب في تاريخ لبنان وتاريخ مسيحيّي الشرق. هذا حزب وطنيّ، لا يمينيّ ولا يساريّ”.

أعجب البطريرك الماروني بشارة الراعي بفكر سجعان قزّي مقدّراً كتاباته وآراءه وتحليلاته في القضايا السياسية، ونشأت بينهما، خصوصاً منذ عام 2019، علاقة تقدير ومحبة متبادلين. يبتسم سجعان قزي حين نسأله: هل أنت مستشار للبطريرك؟ فيقول: غبطة البطريرك يستشيرني أحياناً

 

الحياد… لإحياء “لبنان الكبير”

اللافت أنّ مشروع الحياد سبق لقزّي أن كتب فيه دراسات عدّة تضمّنها كتاباه اللذان أصدرهما: “سياسة زائد تاريخ” (2004) و”لبنان والشرق الأوسط بين ولادة قيصريّة والموت الرحيم” (2007). أطلق البطريرك في عظاته مفهوم “الحياد الناشط” وصار، بالإضافة إلى المؤتمر الدولي الخاص بلبنان، ركيزة الديبلوماسية البطريركية اليوم في المحافل اللبنانية والعربية والدولية والأممية. يقول قزي: “إنّ تبنّي البطريرك الراعي مشروع الحياد الناشط هو لإحياء مفهوم “لبنان الكبير” وفلسفة نشوء هذا الكيان. فالكنيسة المارونية أرادت لبنان مستقلّاً لا دولة قوميّة مسيحيّة ولا جزءاً من سوريا”. ويعتبر قزي “أنّ موقف البطريرك الراعي يهدف إلى تثبيت كيان لبنان لمئة سنة جديدة”.

[PHOTO]

الحياد العسكريّ لا يعني عدم الدفاع عن أراضينا

وحول كيفيّة تطبيق حياد لبنان بعد نشوء الكيان الإسرائيليّ عام 1948؟ يجيب قزّي: “باستثناء نشوء دولة إسرائيل، جميع التحوّلات التي حصلت في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط تعزّز المطالبة بتطبيق حياد لبنان. أمّا حيال إسرائيل، فلبنان ملتزم ما بقي من القضيّة الفلسطينيّة، لكنّه يحافظ على الحياد العسكري بانتظار السلام مع إسرائيل. وحتّى السلام مع إسرائيل لا يمكن أن يتمَّ قبل حلّ القضايا العالقة معها، وأبرزها: الاعتراف بحدودنا الدولية انطلاقاً من خطّ الهدنة، الاتفاق حول ثروات النفط والغاز، إيجاد حلٍّ للاجئين الفلسطينيين في لبنان، والتزام إسرائيل عدم الاعتداء على دولة لبنان والاعتراف بحياده. إنّ السلام اللبناني مع إسرائيل لا يرتبط بالسلام العربي معها، خصوصاً أنّ العرب صالحوها، بل بالقضايا الثنائيّة العالقة”. ويضيف قزي: “إنّ الحياد العسكري لا يعني الامتناع عن الدفاع عن أراضينا في حال تعرّضها لاعتداء، لذلك يجب أن يكون قرار الحرب والسلم محصوراً في يد الدولة اللبنانية فحسب..”.

حول كيفيّة تطبيق حياد لبنان بعد نشوء الكيان الإسرائيليّ عام 1948؟ يجيب قزّي: “باستثناء نشوء دولة إسرائيل، جميع التحوّلات التي حصلت في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط تعزّز المطالبة بتطبيق حياد لبنا

 

متحف سجعان قزّي للفنون الجميلة”

يجلس قزّي في مكتبه، وحوله كتب ومجلّات وصحف معظمها أجنبية، وهو يسكن معظم الوقت في منزله في أدما. منزل يصحّ وصفه بـ”متحف سجعان قزّي للفنون الجميلة”. فكيفما أدرت العين تقع على منحوتات ولوحات لكبار في الفن التشكيلي اللبناني والعالمي، وعلى مجموعات كتب. بدأ قزّي يجمع جميع هذه القطع الفنية والثقافية مذ كان في العشرينات، ثم حين سكن في باريس حيث غاص في ثقافتها ومجتمعها وتقاليدها. هو الفرنكفوني الذي درس في معهد الرسل في جونية، ثم الفلسفة في الكسليك، والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف ـــ اليسوعية. وهو الآن يعطي دروساً عن “دور الثقافة في الإعلام” لطلّاب الماجستير في جامعة القديس يوسف. عام 2019 كان على وشك العودة إلى باريس ليكون إلى جانب ابنتيه Aude وJoy، لكنّه عدّل قراره مع اندلاع الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، وانتشار جائحة كورونا، وتسارع الحوادث اللبنانية، وبقي، على نحو خاصّ، “ليشارك إلى جانب البطريرك الراعي في مبادراته لإنقاذ لبنان”.

وُلِد سجعان قزّي في بلدة العقيبة على ساحل فتوح ـــ كسروان في 6 تشرين الثاني من عام 1952. والده ميلاد، الذي توفّي شابّاً، وكان رئيس منطقة العقيبة الكتائبية، وفي قيادة مجلس إقليم كسروان. أُطلق على ميلاد لقبُ “كاتنغا” Katanga، وهي المقاطعة التي ثارت على دولة الكونغو في الستينيّات، لأنّه كان يرفض الخضوع الآليّ لقرارات تتّخذها القيادة المركزية في الكتائب من دون العودة إلى القيادات المناطقية. ووالدته “انْـهاليتا” (أنجال)، وهي ولدت في كوبا. له شقيقان: جان وجورج، وشقيقة هي إليسار. بدأ سجعان حياته المهنية ولمّا يزل في البكالوريا. ترك بلدته العقيبة يافعاً، وسكن في بيروت وعمل صحافياً في جريدة “العمل” الكتائبية حيث أصبح على تواصل مباشر مع مؤسّس ورئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل الذي عيّنه مسؤول مصلحة الإعلام في الحزب، وأصبح أصغر عضو في المجلس السياسي الكتائبي بحكم كونه مديراً لإذاعة لبنان الحرّ.

إقرأ أيضاً: سجعان قزّي لـ “أساس”: ما فائدة تطوير النظام اللبناني في ظلّ السلاح

يصف قزّي بيار الجميل بأنّه “رجل استثنائي في تاريخ لبنان والشرق الأوسط”. وحول سبب تركه إذاعة “صوت لبنان” وتأسيسه إذاعة “لبنان الحرّ”، يقول قزي: “بعدما دخلت قوات الردع العربية إلى لبنان أواخر عام 1976، وقبول “الجبهة اللبنانيّة” وحزب الكتائب بهذا الدخول، صارت متعذّرة مقاومة القوات السورية، التي تحوّلت احتلالاً، من خلال “صوت لبنان” التي التزمت، وهذا أمر طبيعي، سياسة الحزب. لكنّ بشير الجميل، الذي رفض دخول القوّات السورية وقرّر التصدّي لتجاوزاتها، أراد صوتاً طليقاً يعبّر عن سياسة القوات اللبنانية، أي المقاومة اللبنانية، فبادر إلى إنشاء إذاعة جديدة، وسلّمني إدارتها. وكنت أذيع يوميّاً تعليقاً سياسيّا”.

 

 في الحلقة الثانية: فاوض الفلسطينيين باسم بشير.. وكتب خطاب قسمه

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…