إبن خلدون و بن سلمان: صعود عصبية الدولة السعوديّة

مدة القراءة 8 د

في مقال سابق تحت عنوان “محمّد بن سلمان: دستورنا القرآن ومستقبلنا الإنجاز“، ذكرتُ أنّ وليّ العهد في سياق رؤيته التطويريّة للمملكة يحاول كسر الدورة الخلدونيّة عبر تجديد حياة الدولة ودفعها إلى خط النهوض، من خلال تثمير بدائل من النفط، وإنهاء دولة الرعاية، وتعزيز مركز الدولة، وبناء الجيش. في المقابل، فإنّ رأيه بشأن اعتماد النصّ القرآني في الاجتهاد مع الحديث النبويّ المتواتر، والتوقّف عن أحاديث الآحاد إلا في نسبة قليلة منها تتوافر فيها الصحّة والاقتران بنصوص واضحة، وبمصلحة دنيوية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل هذا من شأنه زعزعة التحالف الديني القَبَلي الذي أنشأ الدولة أوّل مرّة، ويُضعف العصبيّة مع الوقت.

ما هي الدورة الخلدونيّة؟ وأين هو موضع المملكة، من منظور ابن خلدون (توفّي 808هـ/1408م)، في سياق انتقالها من طور إلى آخر، صعوداً وهبوطاً؟ وهل يحاول محمّد بن سلمان تبديل المسار التاريخيّ؟

لا بدّ في هذا المقام، من شرح مبسّط لنظرية ابن خلدون في مقدمته، والتي تستند إلى مفهوم العصبيّة، وذكر الأطوار الخمسة لأيّ دولة. ومن بعد ذلك، ندلف إلى الغاية، وهي تشخيص موضع المملكة، ثم دور الرؤية الإصلاحية النهضويّة لوليّ العهد في كسر دور الانحدار.

لقد انقضت قرون ستة وأكثر على وفاة ابن خلدون الحضرميّ، وما زالت نظريته في قيام الدول وتهاويها، تلقى اهتماماً جادّاً بين الباحثين في الشرق والغرب. ومن الباحثين المعاصرين في تيّار الخلدونية الجديدة، الباحث الماليزي ذو الأصل اليمني، ومن حضرموت أيضاً، الدكتور سيّد فريد العطّاس، وهو أستاذ في الجامعة الوطنية بسنغافورة في مجال الدراسات المالاوية وعلوم الاجتماع. وهو من الدعاة إلى تطبيق النظرية الخلدونيّة على نماذج السلطة في البلدان، التي ما زالت تقوم دولها على العصبية، ومنها بلدان آسيا، ولا سيّما في كتابه الصادر عام 2014 بعنوان “تطبيق ابن خلدون، استعادة تقليد ضائع من السوسيولوجيا Applying Ibn Khaldun, The recovery of a lost tradition in sociology”. العطاس، وفي سياق تطبيقه نظرية ابن خلدون، ساق أربعة أمثلة، وهي: الدولتان القديمتان الصفوية والعثمانية، والدولتان الحديثتان السعودية والسورية. وسأعرّج على الكتاب لاحقاً، فيما يتعلّق بالدولة السعودية.

أولاً، ما يعني ابن خلدون بالعصبيّة؟ هي الالتحام بين أبناء نسب واحد، ومؤدّاه التضامن فيما بينهم، مدافعةً للخطر، ومطالبةً للملك. وهي ليست مقصورة على القرابة، بل تنطبق أيضاً على الالتحام الناتج عن الولاء والتحالف والعشرة والصحبة بين أشخاص معيّنين، بما يؤدّي أيضاً إلى تأسيس ملك. ودينامية الانتقال من العصبية إلى الملك، هي الصراع الدائم بين البدو والحضر.

ويضيف ابن خلدون أنّ العصبية إذا تلازمت مع دعوة دينية، تزداد قوّة. ويعلن أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين إجمالاً. وهو ما حصل عند تأسيس الدولة السعوديّة الأولى عام 1744م باتفاق بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب (توفّي عام 1791م)، والأمير محمد بن سعود (توفّي عام 1765م)، فكان تلازم بين الدعوة والدولة. والسبب في ذلك، كما يقول ابن خلدون، خُلُق التوحّش عند البدو العرب، وهو ما يجعلهم أصعب الأمم انقياداً.

ما هي الدورة الخلدونيّة؟ وأين هو موضع المملكة، من منظور ابن خلدون (توفّي 808هـ/1408م)، في سياق انتقالها من طور إلى آخر، صعوداً وهبوطاً؟ وهل يحاول محمّد بن سلمان تبديل المسار التاريخيّ؟

ثانياً، يقول ابن خلدون إنّ أعمار الدول كأعمار الأشخاص. ولذا عمرها الطبيعي غالباً ما يكون 120 سنة، أي من ثلاثة أجيال، على وجه المقاربة لا الدقّة. ويعتبر أنّ الدول غالباً ما تمرّ بخمسة أطوار من الصعود والهبوط، لكنّه يشير أيضاً إلى ظروف أخرى، تساعد على مدّ عمر الدول أكثر من ذلك، وعلى زيادة قوّتها، ومن أبرزها تشارُك مكاسب السلطة بين مكوّنات العصبيّة، واستغناء الدولة عن العصبيّة بالهيبة، وعدم قيام عصبيّة مناوئة لها. وبالعكس، يمكن استشراف ظروف أخرى، على منوال ما كتبه ابن خلدون، تختصر عمر الدول، فتموت قبل ذلك بكثير، من مثل طروء عنصر خارجيّ، كما حصل عندما قضى والي مصر محمد علي باشا (توفّي عام 1849م)، بأوامر من اسطنبول، على الدولة السعودية الأولى (1744-1818م)، أو انحلال مبكر للعصبية نتيجة الصراع العسكري طوال 25 سنة بين الأخوين عبد الله بن فيصل (توفّي عام 1891م) وسعود بن فيصل (توفّي عام 1875م) إلى اندثار الدولة السعودية الثانية (1840-1891م)، أو عجز موارد الدولة عن القيام بمتطلّبات الإنفاق والحفاظ على جودة العيش، وهو ما يحاول معالجته الأمير محمّد بن سلمان في الدولة السعودية الثالثة الحالية (أُسّست نواتها عام 1902، وأصبحت المملكة العربية السعودية عام 1932م).

ثالثاً، الأطوار الخمسة لأحوال الدولة: فالطوران الأول والثاني هما حقبة الصعود. والطور الثالث هو ذروة القوّة. أمّا الطوران الرابع والخامس فهما حقبة الانحدار.

يقول ابن خلدون إنّ أعمار الدول كأعمار الأشخاص. ولذا عمرها الطبيعي غالباً ما يكون 120 سنة، أي من ثلاثة أجيال، على وجه المقاربة لا الدقّة

الطور الأوّل: هو زمن قوّة العصبية والاستيلاء على السلطة، ويكون فيها صاحب الدولة مشاركاً قومه في اكتساب المجد وجباية المال، لا ينفرد عنهم برأي.

الطور الثاني: هو زمن الاستئثار بالسلطة، أي الانفراد بالملك دون بقية عصبيّته. يكبحهم عن المشاركة، ويتّخذ بطانة من غير عصبيّته ويستكثر منهم.

الطور الثالث: هو زمن الاستقرار، والانتقال إلى حالة الفراغ والدّعة، والانهماك في تحصيل ثمرات الملك من جمع المال وضبط الدَّخْل والخَرْج، وتخليد الآثار، وتشييد المباني الحافلة والهياكل المرتفعة.

الطور الرابع: هو زمن القنوع والمسالمة، ويكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه السابقون، مقلّداً لهم، مسالماً لنظرائه من الملوك.

الطور الخامس: هو زمن الهرم، وفيه يستفحل الإسراف والتبذير. ويكون صاحب الدولة في موقع إتلاف ما جمعه السابقون في سبيل الشهوات، والكرم على بطانته.

 

والسؤال هو أين موضع المملكة من هذه الأطوار الخلدونيّة؟ وهل ينجح محمّد بن سلمان في الصعود بها مجدّداً؟

من دراسة المراحل التي مرّت بها المملكة العربية السعودية حتى اليوم، نجد أنّ الملك عبد العزيز آل سعود (توفّي عام 1953م) قد نجح في تأمين دولته خارجياً من خلال العلاقة المميّزة مع الولايات المتحدة، وداخلياً من خلال الحفاظ على الشراكة التاريخيّة مع تيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بعد تطويعه لمقتضيات الدولة الحديثة. وعرفت المملكة انتقالاً سلساً للسلطة بين أبناء عبد العزيز، أي بين الإخوة. فاجتمعت ميزتان، هما المشاركة في السلطة ووفرة النفط إثر اكتشاف كمّيات هائلة منه. وهذا ما جعل أطوار الدولة خلدونياً غير واضحة، لتدخّل عدّة عناصر في المعادلة، فحصل تداخل بين الأطوار. فالدولة السعودية لم تنتقل نظريّاً من الطور الأول إلى الثاني لوجود نوع من مشاركة العصبيّة في السلطة. لكنّها، عملياً، وصلت في نهاية عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز (توفّي عام 2015م) إلى الطور الخامس حيث ظهرت بعض إرهاصات الهرم.

هو زمن الاستقرار، والانتقال إلى حالة الفراغ والدّعة، والانهماك في تحصيل ثمرات الملك من جمع المال وضبط الدَّخْل والخَرْج، وتخليد الآثار، وتشييد المباني الحافلة والهياكل المرتفعة

أمّا العطاس فيقول إنّ أحداً لم يتناول مسار الدولة السعودية من منظور ابن خلدون إلا الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيه Ortega y Gasset، والدكتور غسان سلامة. لكنّ الدراسة الأعمق بهذا الشأن، هي التي قام بها الباحث الأميركي ذو الأصل الروسي بيتر تورتشن Peter Turchin، وحاول فيها سبْر احتمالات انهيار الدولة السعودية، وكيفيّة كسر المعادلة خلدونيّاً، مركّزاً النظر في الطور الذي أصبحت فيه الدولة عاجزة، بسبب التزايد السكاني، عن الإيفاء ماليّاً بالإنفاق على عصبيّة الدولة خاصةً (وهي المؤلّفة من مزيج التحالف القبلي الديني مع آل سعود)، وعلى مجمل المواطنين عامةً، وهو ما يضطرّها إلى فرض مزيد من الرسوم والضرائب.

إقرأ أيضاً: محمد بن سلمان: تحقيق المصالح بدرء مفاسد التطرّف

وقال تورتشن إنّ إنقاذ السعودية من مسار الانهيار أو تأخيره يكون بخطّة إصلاحية داخلية أو دعم خارجي، أو بسيناريو يدمج بين الاثنين. في عام 2015، أصبح سلمان بن عبد العزيز ملكاً، ونجله محمّد وليّاً لوليّ العهد، ثم وليّاً للعهد عام 2017، مُطلِقاً رؤيته الإصلاحية الداخلية لمعالجة هذه المسألة الملحّة. وهي الرؤية، التي بدأت تظهر بوادر نجاحها، واكتمالها بكسر الدورة الخلدونية، فتعود الدولة إلى مراحل القوّة في طَوْريْها الثاني والثالث، وتأسيس حلف ديني قبلي جديد، يستند إلى مفاهيم حديثة في الاقتصاد وفي الدين.

إنّ ما يفعله ولي العهد السعودي من أجل تجديد شباب الدولة خارج مسار العصبية الخلدونية لا يتعلّق بإعادة تكوين عصبية جديدة على أساس القديمة، بل هو سيرٌ باتجاه عصبية الدولة.

عصبية الدولة الحديثة هي المواطنة وقد تحدّث ولي العهد طويلاً عن المواطنة والمواطن السعودي وأنّ الدولة دولته وهذا حديث جديد ومحدّد يشير إلى استراتيجية ولي العهد للتجديد وفتح الآفاق من طريق تبنّي وتدعيم عصبية المواطنة للدولة الباقية والتي تجدد نفسها عن طريق الاندماج مع شعبها كما هو شأن الدول الحديثة.

مواضيع ذات صلة

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…