لم يكن مفاجئاً لأردوغان، اعتراف الرئيس الأميركي جوزف بايدن بأن ما حدث في الدولة العثمانية ابتداء من عام 1915 من قتل وترحيل للأرمن، هو إبادة جماعية. بل إنه استعدّ لهذا اليوم جيداً بهدف حصد ما أمكنه من ثمار اشتعال الشعور القومي لدى الأتراك. لم يكن بايدن يُخفي نياته بإزاء أردوغان، حتى في حملته الانتخابية، وهو يحاول الآن كرئيس لأقوى بلد في العالم حتى هذه اللحظة، الجمع، بمعادلة صعبة للغاية، بين المبادئ التي ينادي بها، ومنها معارضته للسياسات الاستبدادية للدول الأجنبية، لا سيما في روسيا والصين وتركيا، والسياسات العملية التي تتطلّبها مصالح الولايات المتحدة في العالم، بمعنى غضّ الطرف انتقائياً عن النُظم أو السياسات التي تنتهك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان كما كان يحدث طوال عقود طويلة.
لقد أطلق قرار بايدن في 24 نيسان الجاري، العنان مجدّداً، للجدل التاريخي بين تركيا وحلفائها وأنصارها من جهة، وبين الأرمن، والدول المتعاطفة معهم من جهة أخرى. وكلّهم يضيع في تفاصيل تلك الحقبة السوداء، في وثائق الحرب العالمية الأولى، وتقارير القناصل، ورجال الاستخبارات، وشهادات الشهود، وفي التوصيف القانوني لتلك الأعمال العنفية التي أدّت إلى إفراغ مناطق واسعة في شرق الأناضول من مئات آلاف السكان، وهل هو مجرّد إبعاد جماعي من مناطق محاذية لروسيا إلى مناطق بعيدة، ردّاً على مذابح قام بها الأرمن الموالون لروسيا ضدّ الأتراك خلال الحرب، ثم وقعت انتهاكات جسيمة على يد ميليشيات موالية للنظام التركي أثناء تنفيذ أوامر الإجلاء، أم هي مجزرة متعمّدة بكامل أوصافها، بهدف التخلّص قدر الإمكان من غير المسلمين في تركيا التي كانت على وشك الولادة بعد الحرب، دولةً قوميةً حديثةً، لا مكان فيها لغير الأتراك، كقومية، ولغة، ودين؟ ثم يدور نقاش آخر، حول من أصدر أوامر القتل، ومسؤولية الدولة العثمانية آنذاك، والتي كان يسيطر عليها ضباط الاتحاد والترقي، عقب خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، وهل تنتقل التبعات القانونية إلى الجمهورية العلمانية التي أسّسها أتاتورك عام 1923؟ وهل السلطة التي يمثّلها أردوغان الآن تتحمّل مسؤولية جرائم ارتكبها ضباط علمانيون متسلّطون على السلطان الضعيف محمد الخامس؟
لقد أطلق قرار بايدن في 24 نيسان الجاري، العنان مجدّداً، للجدل التاريخي بين تركيا وحلفائها وأنصارها من جهة، وبين الأرمن، والدول المتعاطفة معهم من جهة أخرى
لكن ما لم يُبحث جدّياً حتى الآن، إلا بعناوين عامة، هو الأثر القانوني الهائل جرّاء الاعتراف بإبادة الأرمن. إنّ المطالبة بالعدالة تقتضي أموراً عدة بالغة الحساسية لتركيا الحالية، منها حق العودة إلى المناطق الأصلية، وحق استعادة الأملاك، أو حق التعويض المالي في حال عدم الرغبة بالعودة، وهو مسار مدمّر بأيّ شكل وأيّ وجه، للقوة التركية الصاعدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. فهل مطلوب من أردوغان أو أيّ رئيس تركي الإقرار أيضاً، ودفع الثمن؟ والسؤال المركزي هو ما هدف بايدن من هذا الاعتراف؟ هل هو مجرّد موقف أخلاقي يريح الضمير ويجلب التاييد في الداخل والخارج، أم سيكون أداة لمحاكمة تركيا بكلّ مكوّناتها واتجاهاتها السياسية، وإدانتها عالمياً، وإيقاع العقوبات فيها، من أجل إضعاف دولة أساسية في حلف الأطلسي؟
إنّ أسئلة “الما بعد” تستبطن ما هو أخطر بكثير من فوضى التاريخ وغباره المتناثر. وما يهمّ الأرمن بطبيعة الحال، هو أكبر بكثير من مجرّد الاعتراف. وما هو في الميزان حقاً، ما يعنيه هذا الاعتراف للعلاقات التركية الأميركية، في وقت تتوتر فيه العلاقات بين واشنطن وموسكو، بشأن ملفات عدة، أبرزها أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ومعاهدة الحدّ من التسلّح النووي، وحقوق الإنسان في روسيا، والآثار الجيوسياسية التي ستترتّب على أيّ محاولة لحصار تركيا راهناً تحت عنوان العدالة، مع عدم اليقين في مسار التفاوض الأميركي الإيراني وملف الاتفاق النووي، وموقع إيران في المنطقة. بعبارة أخرى، إنّ محاولة عزل تركيا ستدفعها إلى تعزيز علاقاتها أكثر فأكثر مع روسيا وإيران، وهو ما لا يصبّ في مصلحة واشنطن.
إنّ أسئلة “الما بعد” تستبطن ما هو أخطر بكثير من فوضى التاريخ وغباره المتناثر. وما يهمّ الأرمن بطبيعة الحال، هو أكبر بكثير من مجرّد الاعتراف
في الداخل، ستكون الآثار متوازية بخلاف رغبات واشنطن والعواصم الأوروبية المناوئة لأردوغان. فالنظام الحالي ذو الصبغة الإسلامية، غير مسؤول سياسياً عما ارتكبه الاتحاديون في الحرب العالمية الأولى. والاتجاهات القومية والعلمانية في تركيا ليست أقل رفضاً لقرار بايدن، ولأيّ مطالعة أُحادية للتاريخ، تستهدف وضع تركيا موضع الاتهام والإدانة. وستكون المحصّلة الطبيعية لهذا “العدوان” الخارجي على تركيا، تعاظم الشعور بوحدة المصير التركي، وانحلال الخطاب السياسي المعارض لأردوغان في المدى المنظور، وإضعاف حظوظ أحزاب المعارضة في الانتخابات المقبلة.
إقرأ أيضاً: لبنان يتفكّك… هل يأتي أردوغان؟
وبالفعل، لم يكن توقيت قرار بايدن، ليكون أكثر تناسباً مع المصالح الانتخابية لأردوغان. فمع تواتر المصاعب الاقتصادية لأكثر من سبب، وتدهور علاقات تركيا خارجياً عقب تدخلاتها العسكرية، ورغبة الرئيس التركي بتعديل الدستور قبل عام 1923 الموافق للذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية ما يفرض تعديل موازين القوى في البرلمان، توقّع أكثر من صحافي تركي قبل شهرين تنظيم انتخابات نيابية مبكرة، كما دعا رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كيليتشدار أوغلو أنصاره للاستعداد لانتخابات نيابية مبكرة الخريف المقبل. بل إنّ الكاتب في صحيفة “جمهوريت” المعارضة، أورهان بورصالي، تنبّأ قبل أكثر من شهر، بأن أردوغان سيسعى إلى صراع مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات النيابية المبكرة، فيحوّل العداء مع أميركا إلى حملة وطنية يكسب فيها ثلاثة ملايين ناخب إضافي.
لم يكن أردوغان بحاجة إلى ابتكار كلّ ذلك. جاءته هديّة ثمينة من بايدن. لن يحتاج إلى ترداد كثير من الكلام. يكفيه تذكير الأتراك، بأن الغرب لا يريد عودة تركيا إلى سابق مجدها، وأنهم يحاولون خنقها في القمقم، من دون نفط، ولا موارد، ولا صناعات عسكرية، ولا نفوذ خارجي، بل لا يريدون انعتاقها من قيود معاهدة لوزان لعام 1923. وإنّ الوعد الموعود في الذكرى المئوية بعد عامين. ما عليه فقط، هو أن يشكر بايدن.