يمكن اختصار قضية القدس في النقاط التالية:
1- في عام 1903، وجّه ثيودور هرتزل، مؤسّس الحركة الصهيونية، رسالة إلى بابا الفاتيكان بيوس العاشر، يطلب منه الدعم في تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين. في 24 كانون الثاني من عام 1904، ردّ البابا بما يلي:
“نحن لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية. إنّنا لا نقدر على منع اليهود من التوجّه إلى القدس، ولكنّنا لا يمكن أبداً أن نقرّه. وبصفتي قيّماً على الكنيسة، لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيّدنا (المسيح)، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي. فإذا جئتم إلى فلسطين، وإذا أقمتم هناك، فإنّنا سنكون مستعدّين، كنائسَ ورهباناً، أن نعمّدكم (أي نحوّلكم إلى المسيحية) جميعاً”.
2- استمرّ هذا الموقف المبدئي حتّى الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب تغيّرت المعادلات في ضوء ما واجهه اليهود من جرائم على يد النازية الألمانية. مع ذلك، عندما طُرح في الأمم المتحدة مشروعُ تقسيم فلسطين، بما يعني إقامة اسرائيل، طالب الفاتيكان بتدويل القدس لمنع تهويدها. وهو ما عارضته إسرائيل حينئذٍ بشدّة، ولا تزال تعارضه حتى اليوم.
3- في حزيران من عام 1967، احتلّت إسرائيل مدينة القدس. كان على رأس القوات الإسرائيلية، التي اقتحمت المدينة المقدّسة: الجنرال موشي دايان. وكان يرافقه في دبّابة القيادة القسّ الإنجيلي الأميركي بات روبرتسون.
هذه المواقف المسيحية المبدئية الكاثوليكية – الأرثوذكسية – الإنجيلية من القدس وأهلها، لم تأخذ موقعها في الدبلوماسية الإسلامية لتحرير المدينة المقدّسة من الاحتلال والتهويد
في ذلك اليوم أعلن روبرتسون، وهو يتفرّج على عملية تهديم حيّ المغاربة المجاور للمسجد الأقصى، أنّ المعجزة الثانية المتعلّقة بسيناريو العودة الثانية للمسيح قد تحقّقت، وأنّ علينا الآن العمل على تحقيق المعجزة الثالثة، وهي بناء الهيكل اليهودي على أنقاض المسجد الأقصى وفي موقعه. أمّا المعجزة الأولى فكانت قد تحقّقت بقيام إسرائيل في عام 1948.
في عام 1980، ترشّح القسّ روبرتسون للانتخابات الرئاسية الأميركية، وكان يتطلّع إلى العمل على تحقيق المعجزة الثالثة، لكنّه تعثّر في الطريق إلى البيت الأبيض. وكان الفوز من نصيب الرئيس رونالد ريغان.
4- بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل القدس، طالب الفاتيكان باحترام قرار الأمم المتحدة رقم 181 (تشرين الثاني 1947) بوضع القدس تحت نظام دولي، بحيث تكون المدينة المقدّسة جسماً منفصلاً (Corpus Separatus). بعد اتفاقات التسوية العربية مع إسرائيل (كامب ديفيد مع مصر، وادي عربة مع الأردن، أوسلو مع السلطة الفلسطينية)، اعترف الفاتيكان بإسرائيل، لكنّه تمسّك باعتبار القدس مدينة محتلّة، وهو موقفه المستمرّ حتى اليوم.
5- في مؤتمر القمّة الإسلامية، الذي عُقد في مدينة لاهور بباكستان في عام 1974، وخُصّص لقضية القدس، شارك في المؤتمر للمرّة الأولى، البطريرك الأرثوذكسي الأنطاكي الياس الرابع. حينئذٍ عارض الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور حسن التهامي مشاركة البطريرك كي لا يبدو أنّه المؤيّد الوحيد للقمّة الإسلامية. ولذلك قال البطريرك للقادة المسلمين: “أنا لم أحضر لأؤيّدكم في قضية القدس. أنا أعتبر المؤتمر كلّه مؤيّداً لنا نحن المسيحيين في قضيّة القدس”. وبهذا الموقف اعتلى البطريرك منبر القمة الإسلامية. وللمناسبة، عُيّن الدكتور التهامي فيما بعد وزير دولة في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، وكُلّف بإعداد برنامج زيارته التاريخية للقدس المحتلّة.
6- عندما بدأت اسرائيل بناء الجدار العنصري حول الضفة الغربية، وبناء المزيد من المستوطنات اليهودية فيها، قرّرت الجمعية العامة للكنيسة المشيخية الأميركية، وهي من كبرى الكنائس الإنجيلية الأميركية، سحب استثماراتها وودائعها المالية، التي تُقدّر بمليارات الدولارات، من إسرائيل، احتجاجاً على انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني. وتعرّضت الكنيسة لحملة تشهير واسعة ومضايقات شديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، بسبب هذا الموقف الديني – الأخلاقي. وهي تتمسّك به حتى اليوم على الرغم من أنّها لم تتلقَّ أيّ رسالة دعم أو تقدير من أيّ جهة إسلامية.
هذه المواقف المسيحية المبدئية الكاثوليكية – الأرثوذكسية – الإنجيلية من القدس وأهلها، لم تأخذ موقعها في الدبلوماسية الإسلامية لتحرير المدينة المقدّسة من الاحتلال والتهويد. وكانت منظمة التعاون الإسلامي، في قمّة عقدتها في الطائف (1981)، قد قرّرت وضع استراتيجية إسلامية لتحرير القدس. لا أعرف إذا وضعت هذه الاستراتيجية، ولكن ما أعرفه وتعرفونه جميعاً هو أنّ القدس تذوب مثل حبّة من السكر في فم التنّين الصهيوني، ولا يتصدّى لهذه الجريمة المتمادية سوى أهل القدس، مسلمين ومسيحيين، بصدور عارية وباللحم الحيّ. وما الاعتداءات المتكرّرة على المسجد الأقصى سوى مرحلة متقدّمة من مراحل مشروع التهويد، الذي يشمل المدينة كلّها بمساجدها وكنائسها.. وبهويّتها العربية.
ما لم ندرك هذه الحقائق، وما لم نتصرّف على أساسها، فإنّ كل الكلام الذي نسمعه عن استراتيجية التحرير، يبقى جعجعة بلا طِحن، وذرّاً للرماد في العيون. مع ذلك، وكما قالوا هم، نقولها نحن: إلى اللقاء في القدس
7 – في 21 تموز من عام 1969، نشب حريق في المسجد الأقصى. لم يكن الذي ارتكب تلك الجريمة إسرائيلياً، ولم يكن يهودياً. كان مهاجراً أسترالياً من منظمة الصهيونية المسيحانية، ويدعى دنيس مايكل روهان. والمنظمة هي حركة مسيحية إنجيلية تؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وبأنّ من شروط العودة المنتظرة بناء الهيكل اليهودي على أنقاض المسجد الأقصى وفي موقعه. وتؤمن بأنّ المسيح لن يعلن عودته إلا من هناك. ولذلك تحرص هذه المنظمة القويّة جدّاً في الولايات المتحدة، أكثر من إسرائيل نفسها، على أن ترى المسجد الأقصى قد أصبح أثراً بعد عين.
8- في عام 1985، في مدينة بال بسويسرا، وفي القاعة عينها من الفندق الذي عقدت فيه الحركة الصهيونية اليهودية مؤتمرها التأسيسي، عُقد مؤتمر للصهيونية المسيحانية بدعوة من مدير المعهد الأميركي لدراسات الأرض المقدّسة في الولايات المتحدة دوغلاس يونغ. رَأَسه القسّ ديرهوفين، رئيس الكنيسة الإنجيلية الهولندية، وشاركت فيه 589 شخصيّة من 27 دولة.
انبثقت عن هذا المؤتمر منظمة جديدة تدعى “منظمة السفارة المسيحية الدولية من أجل القدس”. وحدّدت المنظمة الجديدة لنفسها مهمّة وحيدة، وهي مساعدة إسرائيل سياسياً ومالياً وإعلامياً على بسط سيطرتها على كل المدينة المقدّسة، وتهويدها.
وبالفعل تمكّنت، في عام 1990، من حمل الكونغرس الأميركي على إصدار قراره الشهير باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأميركية إليها. وهو القرار الذي نفّذه الرئيس السابق دونالد ترامب.
لم يكن تاريخ 6 كانون الأول 2017 لإعلان قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس اختياراً عشوائياً أو مصادفة، بل هو إحياء للذكرى المأساوية لاحتلال الجيش البريطاني، بإمرة الجنرال اللنبي، المدينة المقدسة، وإعلان اللنبي الفجّ: “الآن انتهت الحروب الصليبية”. وكان ذلك في 6 كانون الأول من عام 1917.
9- يوجد الحرم الشريف وقبّة الصخرة ومسجد عمر وغيرها من المواقع الاسلامية في كيلومتر مربّع واحد من المدينة المقدّسة. وتوجد فيه كنيسة المهد والقبر المقدّس ومقدّسات مسيحية عديدة أخرى. وفيه أيضاً حائط البراق (حائط المبكى) الذي يزعم اليهود أنّه الأثر الوحيد الباقي من هيكل سليمان، وهو ادّعاء أسقطته اليونسكو عندما قرّرت السيادة العربية عليه. وفي التلّة المطلّة على المدينة يوجد قبر داود، وموقع العشاء السرّي الأخير. وفي تلّة الزيتون تقع الجثمانية، وهي الموقع الذي بُعِث فيه المسيح حيّاً وصعد إلى السماء. ويوجد قبر مريم ويوسف والكنيسة التي تقوم عليهما. من أجل ذلك يتمتّع هذا الكيلومتر المربّع الواحد بحضور ديني كثيف تشمل قوّته الروحية الرسالات الإبراهيمية الثلاث كلّها.
10 – ليست القدس مدينة تحتضن صروحاً دينية فقط.. إنّها أرض فلسطينية محتلّة. وهذا ما يتغافل عنه الكثيرون. وهو تغافل مقصود لإسقاط البعد الوطني في مقاومة الاحتلال التهويدي، ولحصر هذه المقاومة في البعد الديني فقط.. ولحصر هذا البعد الديني في الإسلام تحديداً، مع العمل على شيطنة الإسلام وتشويه صورته في العالم لتعطيل التعاطف مع المساعي الإسلامية لتحرير المسجد الأقصى وقبّة الصخرة من خطر التهويد المعلن، الذي وُضع موضع التنفيذ.
إقرأ أيضاً: القدس في القلب
11- جعلت إسرائيل ممّا تسمّيه “تطهير” القدس من أهلها الفلسطينيين ومن تهويدها قاعدة وأساساً. حتى إن ديفيد بن غوريون، رئيس أول حكومة إسرائيلية، قال: “لا إسرائيل من دون القدس. ولا قدس من دون الهيكل (هيكل سليمان)”. وهذا يعني أنّه بعد ضمّ القدس المحتلّة إلى بقية الأرض الفلسطينية المحتلّة التي تقوم عليها إسرائيل، ستكون الخطوة الإسرائيلية التالية هي تهديم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل. وهو هدف يعمل عليه معاً الصهاينة اليهود والصهاينة المسيحانيون.
12- إنّ حماية المسجد الأقصى هي حماية لكنيسة القيامة.. والدفاع عن المقدّسات الإسلامية في المدينة المحتلّة هو دفاع عن المقدّسات المسيحية. لذا ليست قضية تحرير القدس ومنع تهويدها قضية إسلامية فقط. إنّها قضية إسلامية – مسيحية. وهي ليست قضية عربية فقط. إنّها قضية إنسانية – عالمية. ولذلك يستوجب العمل من أجل تحرير القدس، اعتماد استراتيجية إسلامية – مسيحية مشتركة عالمية تنبثق عنها مؤسسة “السفارة الإسلامية – المسيحية الدولية لنصرة القدس”، يكون من مهمّاتها دعم صمود المقدسيّين المسلمين والمسيحيّين، والدفاع عن المقدّسات الإسلامية والمسيحية، والمحافظة على الهوية العربية الفلسطينية للمدينة المحتلّة، والتصدّي لعمليات التهويد التي تقوم بها الحركتان الصهيونيّتان، اليهودية والمسيحانية. فالقدس لا تتحرّر بالشعارات ولا بالتمنّيات.. إنّها تتحرّر بالتضحيات وبالعمل الجادّ المخلص والمتفاني.
كلمة أخيرة: ما لم ندرك هذه الحقائق، وما لم نتصرّف على أساسها، فإنّ كل الكلام الذي نسمعه عن استراتيجية التحرير، يبقى جعجعة بلا طِحن، وذرّاً للرماد في العيون. مع ذلك، وكما قالوا هم، نقولها نحن: إلى اللقاء في القدس.