طرابلس من الآثار إلى الأدوار (2): لإعلانها مدينة السلام والشراكة

مدة القراءة 6 د

يذهب أصحاب الرؤية والبصيرة إلى ضرورة الاستعداد لمرحلة انهيار الدولة في لبنان خلال المدى المنظور. وكيف يمكن الحفاظ على مشروع الدولة وعدم الانزلاق إلى منطق التفكيك والتقسيم، والعمل في الوقت نفسه تحت عبء غياب الدولة.

هي معادلة شديدة الصعوبة، تمتلك طرابلس فرصة إنجاحها محلياً، من خلال نضال أبنائها لإنقاذ مدينتهم، مع سقوط شرعية أغلب القيادات السياسية، والتراجع المتوقّع في قدرة أجهزة الدولة على القيام بدورها.

لماذا نستحي من تسمية الأمور بأسمائها: نحن مقبلون على زلزال هائل وانهيار مدمِّر. وكلّ من يتجاهل هذه الحقيقة، إمّا جاهل وإمّا متآمر، وكلّ تأجيل في البحث عن المخارج وأبواب الإنقاذ المتاحة، هو شكلٌ من أشكال التواطؤ. والرّهانُ على مساعدات عشوائية تأتي من الاغتراب، أو يوزّعها الساسة على أتباعهم لاعتقادهم أنّها رشى انتخابية مبكِّرة.. لن يجدي.

هذه الأسئلة لم يعد ممكناً تجنُّبُها، لأنّ الجميع يتصرّف على أساس أنّنا نتوجّه إلى أوضاعٍ شديدة الصعوبة، ويجب التفكير في كيفية التعامل معها.

لطالما كانت الثغرة الكبرى في خاصرة طرابلس تكمن في الاختراقات الأمنية. وهويّة المحرّكين واضحة، منذ ما سمّي “أحداث الضنية”، مروراً بتنظيم “فتح الإسلام”، وصولاً إلى تفجير مسجدي التقوى والسلام. ولطالما استفاد المجرمون من حالة الإنهاك التي تعانيها المدينة، لإثارة الفوضى. وكانت طرابلس بلا حلفاء يعملون لأجلها بشكلٍ فاعل، وإلاّ لَما كانت تعرّضت لهذه السلسلة الطويلة من الاستنزاف الأمني الذي لا ينتهي.

هي معادلة شديدة الصعوبة، تمتلك طرابلس فرصة إنجاحها محلياً، من خلال نضال أبنائها لإنقاذ مدينتهم، مع سقوط شرعية أغلب القيادات السياسية، والتراجع المتوقّع في قدرة أجهزة الدولة على القيام بدورها

لهذا يجب أن تصنع طرابلس تحالفاتها، على قاعدة مختلفة. وأوّل نقاط الاختلاف والقطع مع الماضي، هي تصرُّفها وكأنّها وحدها في المواجهة، فوجود الدولة الشكلي لم يحُل دون وقوع أكثر من عشرين جولة قتال في منطقتي التبّانة وبعل محسن، ولم يمنع وقوع معارك بين الجيش وبين متسلّلين ومضلَّلين في طرابلس، ولم يستطع هذا الحضور البارد للدولة أن يحاكم القتلة الذين فجّروا المسجديْن على رؤوس المصلّين. وكان ثمن كلّ هذه الأحداث باهظاً على المستويين الإنساني والاقتصادي.

أدّى الاستيلاء التدريجيّ والمتواصل لـ”حزب الله” على السلطة، وهيمنته في الأمن والقضاء، إلى تسخير أجهزة الدولة لاضطهاد مواقع أهل السنّة عموماً، وأبناء طرابلس والشمال خصوصاً. فلا تكاد السجون تُخرج قسماً من أبنائها، حتّى تعود فتمتلئ بغيرهم من جديد، بعد حملات اعتقال واسعة ومنظّمة عند كلّ حدث يقع، تقف وراءه أشباح السلطة مباشرةً أو مداورة.

لهذه الأسباب، لا يمكن لطرابلس أن تراهن على الدولة، في المرحلة الراهنة والآتية على الأقلّ، لإنقاذها، فهي ستجد قريباً أنّ الدولة تدخل مرحلة ضمور شديد، وقد بدأت ملامح التفسّخ تظهر في تصريحات من يتبوّأون مسؤوليات الأمن والاقتصاد، وبالتالي لا مناص من التفكير في مبادرة ترسم خطوط الإنقاذ العريضة.

تُشكّل طرابلس الكبرى، الممتدّة من البترون إلى عكار ساحلاً، ومن الكورة إلى بشرّي وإهدن والضنية جبلاً، النموذج الأكثر تمثيلاً للكيان اللبناني، بتنوّعه وتكامله، وبالعيش في بوتقة متكاملة من النسيج الاجتماعي الذي حافظ على تماسكه، وتمكّن من جعل الحرب محطة للاعتبار وليس للاستحضار.

لهذا لا يعود مبرَّراً التخوّف من السعي إلى تكوين مظلّة الحماية العربية والإسلامية والمسيحية (الفاتيكانية) لطرابلس الكبرى. فإذا كانت ستبقى وحدةٌ بين اللبنانيين، فإنها ستكون هنا في هذه الأرض التي تجذّرت فيها الكنائس والمساجد، وعاش أهلها وطنيّتهم بعيداً من كلّ الحسابات العابرة، ومن كلّ المغامرات الغابرة، وستعود “طرابلس الكبرى” بعد انتهاء الأزمة لتكون النموذج الأنجح في الحفاظ على لبنان الرسالة.

 

توفيق دبوسي: شراكة إسلامية مسيحية

إنّ ما يقوم به رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس توفيق دبوسي، بإصرارٍ وتجاوزٍ لكلّ العوائق والظروف المحبِطة، من تعريف استراتيجي لـ”طرابلس الكبرى”، ومن إعداد للدراسات العلمية وتمهيدٍ للخطوات العملية، لولادة الفيحاء الجديدة، هو أحد مداميك الرؤية المطلوبة لإدارة المرحلة المقبلة. خصوصاً أنّ الفكرة استطاعت استقطاب اهتمام سفراء الدول الكبرى، الذين كسروا الغياب عن المدينة، وباتوا يؤمّون الغرفة ويحرصون على زيارة مرفئها، متجاهلين في أغلب الأحيان، وجود نوّاب أو “مسؤولين” فيها.

لا يمكن لطرابلس أن تراهن على الدولة، في المرحلة الراهنة والآتية على الأقلّ، لإنقاذها، فهي ستجد قريباً أنّ الدولة تدخل مرحلة ضمور شديد، وقد بدأت ملامح التفسّخ تظهر في تصريحات من يتبوّأون مسؤوليات الأمن والاقتصاد

وأمام هذه الحقيقة، ليس من مخرجٍ سوى تفعيل الشراكة الإسلامية المسيحية في طرابلس والشمال، وإطلاق ورشة مدنية واسعة مع المرجعيات الدينية، لعزل كلّ عناصر الفوضى والتصدّع، والتفاهم على آليّات تحرّك “دبلوماسية” تكون كفيلة بتشكيل مظلة دولية عربية وإسلامية، تمنع سحق المدينة تحت وطأة الأزمات واصطناع الإرهاب، فتضع الحواجز أمام تسريبه إليها، وتسمح باستثمار مواردها ومقوّماتها لإنعاش اقتصادها وحفظ عمرانها.

أبرز ملامح الإنقاذ تكون في البحث عن “الموجودات الثابتة” لطرابلس، وأوّلها القيم الدينية والأخلاقية التي تختزن ضوابط الأخلاق، وتمنع الانزلاق إلى شريعة الغاب، وفي القلب منها التكافل والتضامن الاجتماعيّان.

إقرأ أيضاً: طرابلس: من مدينة الآثار إلى مدينة الأدوار (1)

وثانيها الشراكة الإسلامية المسيحية التي تشكِّل الرافعة للإنقاذ، والتي تفتح الباب أمام تقديم دورٍ متجدِّد للفيحاء، وهو أن تكون نموذجاً لمدينة السلام وسط الاضطراب، وأن تكون مدينة الشراكة في زمن الصراعات المنفلتة في كلّ اتجاه. وتحت هذا العنوان يمكن صياغة تفاصيل مشروع يحمل النهوض الاقتصادي والحضاري والإنساني.

إنّ المرجعيّات الدينية، الإسلامية والمسيحية، مدعوّة إلى توظيف كلّ إمكاناتها وطاقاتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، من أجل وضع طرابلس الكبرى على خطّ الاستقرار الدولي، الممتدّ من مكّة المكرّمة، والمتّصل بحاضرة الفاتيكان وبقاهرة الأزهر الشريف، لتعلن هذه العواصم طرابلس مدينةً للسّلام والشراكة الإسلامية المسيحية، وتضع كلّ إمكاناتها في سبيل حمايتها ومنع الاعتداء عليها من الداخل والخارج، وتوفير التوازنات الدولية المطلوبة لتحييدها عن بؤر الصراع، وتوفير سبل الحياة الكريمة لأبنائها عبر مبادرات متقدِّمة تحمل الإنقاذ والترياق، وتسمح لها بمرحلة انتقالية آمنة، تكفل نجاتها ونجاة الشراكة الوطنية من الاندثار.

 

مواضيع ذات صلة

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…