لم يعد الانهيار نفسه الحدثَ الاستثنائيَّ في لبنان، بل إنّ الأحداث، التي تجري في ظلّ هذا الانهيار، هي التي تحمل صفة الاستثناء. هذه الخلاصة الرئيسة التي يمكن استنتاجها من تطوّرات الانقلاب الذي نفّذته مدّعي عام جبل لبنان، المنزوعة الصلاحيات، القاضية غادة عون على المنطق المؤسّساتيّ والدستوريّ للدولة.
هذا دليل واضح على أنّنا انتقلنا من وضع انهياريّ إلى وضع انقلابيّ. ولذلك ما عاد يمكن النظر إلى الانهيار بوصفه انهياراً لوضع سابق، بل بوصفه وضعاً جديداً تحاول القوى النافذة، في ظلّه، وضع قواعد جديدة لسلوكها السياسي يقطع كلّيّاً مع الآليات الدستورية والمؤسّساتية المتّبعة في الأوقات العادية.
ولعلّ ما يؤكّد الصفة الاستثنائية للوضع الجديد هو كون “تمرّد” القاضية عون يحظى بغطاء من العهد الذي يفترض به بحسب نصّ وثيقة الوفاق الوطني أن يسهر على احترام الدستور. أي أنّنا بتنا في وضع ينقلب البعض فيه على المنطق المؤسساتي والدستوري للدولة من داخل الدولة نفسها.
كلّ ذلك يؤكّد أنّ العهد ألغى الحدود بينه وبين فريقه السياسي، أي التيار الوطني الحرّ. ففي لحظة دخول “المشروع العوني” مرحلة جديدة عنوانها “التصعيد السياسي والميداني”، تحوّل الرئيس إلى “الجنرال” الذي يُلهم القواعد الشعبية للتيّار ويحدّد توجّهاتها. وأصبح لبنان يعيش تباعاً الترجمات الميدانية والسياسيّة لخطاب الرئيس عون في السابع من نيسان، الذي قال فيه، في رسالة واضحة لمناصريه: “أنا ميشال عون رئيس الجمهورية والجنرال أناديكم”… لقد كان ذلك الخطاب إشارة الانطلاق للتصعيد العوني في كلّ الاتجاهات، بدءاً من إعادة إنتاج “الحرس القديم”، مروراً باقتحام القاضية عون شركة المكتّف مدعومةً من مناصري التّيّار وجهازه وحدّاديه، ووصولاً، بالتزامن مع عملية الاقتحام تلك، إلى كلمة جبران باسيل من بكركي مساء الأربعاء التي كشف فيها عن “موهبته اللاهوتية”، معلناً نفسه مرّةً جديدةً مخلّصاً لمسيحيّي لبنان!
ما عاد يمكن النظر إلى الانهيار بوصفه انهياراً لوضع سابق، بل بوصفه وضعاً جديداً تحاول القوى النافذة، في ظلّه، وضع قواعد جديدة لسلوكها السياسي يقطع كلّيّاً مع الآليات الدستورية والمؤسّساتية المتّبعة في الأوقات العادية
أمام هذا الواقع الجديد، يبقى السؤال الرئيس المطروح مرتبطاً بمآلات الحركة التصعيدية العونية. وللإجابة عنه، لا بدّ من وضع الحركة العونية المستجدّة في السياق السياسي العامّ. وذلك يؤدّي إلى ربطها بشكل أساسي بالحسابات السياسيّة، وتحديداً الرئاسية، لباسيل الخاضع لعقوبات أميركية قاسية وضعته في شبه عزلة سياسية، داخلية وخارجية، لم يسبق أن واجهها سياسيّ لبنانيّ قبلَهُ. ولولا تحالفه مع الحزب لأمكن القول إنّ عزلته الداخلية تامّة، ولولا زيارته لموسكو في 29 الجاري لأمكن القول إنّ عزلته الخارجية تامّة.
لذا يلعب باسيل، وعلى طريقة عمّه الجنرال في عام 1989، كلّ أوراقه في هجوم دفاعي يحاول من خلاله تحسين شروطه السياسيّة محليّاً وخارجيّاً. فيكون رئيس التيّار قد انتقل عمليّاً إلى “الخطة ب” في ردّه على الضغط السياسي، الذي يجابهه منذ تشرين 2019، وفي محاولته تصوير العقوبات الأميركية عليه وكأنّها تطول المسيحيّين اللبنانيين، إذ تطول رئيس أكبر تكتّل نيابي مسيحي. وعليه، يحاول باسيل جعل العقوبات عليه شخصياً وسياسياً، “مظلوميّة مسيحية”، طمعاً إعادة إنتاجٍ مظلوميّة “التيار العوني” المنفي جنراله وقائده قبل العام 2005، والمبعد عن السلطة الحكومية بعده لسنوات، وصولاً إلى انتخابه رئيساً في تشرين الأول 2016.
يلعب باسيل، مؤازَراً من عمّه “الجنرال”، على المستويين الداخلي والخارجي. ففي الداخل يسعى رئيس التيار إلى أهداف عدّة مترابطة:
– أوّلها تعبئة أنصاره بعد حالة الإرباك التي أصابتهم منذ تشرين 2019.
– وثانيها الإمساك بحقّ الفيتو المسيحي على أيّ تشكيلة حكومية عتيدة، واستتباعاً تجميع أوراق سياسية، ولو بالتعطيل، ضدّ خصومه على الساحة المسيحية، وفي وجه خصومه المسلمين، وتحديداً رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري. وثالثها تحسين وضعيّته ضمن تحالفه مع حزب الله.
فحزب الله، الذي تُطرح أسئلة كثيرة عن نظرته إلى الحركة العونية التصعيديّة، متضرّر من حالة الوهن التي أصابت التيار، ولا سيّما أنّه لا يجد بديلاً منه على الساحة المسيحية حتّى الآن. وقد أعادت الدينامية السياسية، التي أطلقها البطريرك بشارة الراعي منذ تموز الماضي، إلى التيّار أهميّته بالنسبة إلى الحزب بوصفه تيّاراً مسيحياً رئيساً يعارض توجّهات البطريرك الداعية إلى الحياد وعقد مؤتمر دولي.
يلعب باسيل، وعلى طريقة عمّه الجنرال في عام 1989، كلّ أوراقه في هجوم دفاعي يحاول من خلاله تحسين شروطه السياسيّة محليّاً وخارجيّاً
هذا مع الأخذ في الاعتبار تبدّل أولويّات كلّ من الحزب والتيار منذ تفاهم مار مخايل، وهو ما يعكسه الحديث المتكرّر عن إعادة تقويم و”تحديث” هذا الاتفاق، ولا سيّما من جانب التيار. لذا يحاول باسيل، من خلال محاولة إعادة تعويم زعامته المسيحية، تحسين شروط مفاوضاته مع الحزب حول تفاهم مار مخايل، وهي مفاوضات لن تكون هي الأخرى بمعزل عن حسابات باسيل الرئاسية.
ولعلّ الخطر الحقيقي في الحراك العوني الجديد هو استخدامه هذه المرّة أدوات الدولة لكون التيار هو حزب العهد. وليس أدّل على ذلك من مجريات تحرّك القاضية عون ضدّ شركة مكتّف. وهذا ما رتّب وسيرتّب انقسامات داخل مؤسسات الدولة قد تأخذ وجهات طائفية على غرار ما شهدناه في الاحتشاد الحزبي المتقابل أمام قصر العدل الاثنين الماضي.
إقرأ أيضاً: معركة الرئاسة بدأت… وباسيل “يحرق” أوراق منافسيه
والحال هذه، مَنْ يضمن عدم انتقال هذه الانقسامات من المؤسسة القضائية إلى المؤسسات الأخرى، وعلى أسس سياسية وطائفية؟ ولذلك ستكون الأيام والأسابيع المقبلة محفوفة بالمخاطر في وقت لا يوجد جسم سياسي موحّد يواجه “الانقلاب” العوني الممنهج، الذي يبدو أنّه يحظى بغطاء من حزب الله، أو في أقلّ تقدير لم يتدخّل الحزب لكبحه، ولم يعبّر عن مخاوفه منه حتّى الآن.
الخطير أيضاً أنّ التصعيد العوني قد يلقى ارتدادات ميدانية، عاجلاً أم آجلاً، على الساحة المسيحية، تبعاً لأهداف التيار ولتسلسل خطّته التصعيدية التي لا يمكن التكهّن بمآلاتها. ولذلك فالمرجعيات المسيحية مطالبةٌ بإبداء أعلى درجات اليقظة السياسية لكي لا يتكرّر تاريخ العام 1989 على شكل مأساة جديدة أو مهزلة جديدة أو الاثنتين معاً.
وإنّ غداً لناظره لقريب!