أراش عزيزي Arash Azizi
مقدمة: صدر للباحث الإيراني أراش عزيزي في تشرين الثاني الماضي كتابٌ يتناول سيرة قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، الذي اغتالته طائرة مسيّرة أميركية قرب مطار بغداد في 2 كانون الثاني عام 2020. عنوان الكتاب: “قائد الظلّ: سليماني، الولايات المتحدة والطموحات العالميّة لإيران (The Shadow Commander: Soleimani, The US and Iran’s Global Ambitions). أمّا الكاتب فهو صحافي إيراني كتب في النيويورك تايمز والواشنطن بوست وفي غيرهما، وفي مواقع إلكترونية عدة. وهو يعدّ دكتوراه في جامعة نيويورك عن الجماعات الاشتراكية والإسلامية في إيران وعلاقاتها مع العالم العربي خلال الحرب الباردة. وفي ما يلي مقتطفات من الكتاب.
كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، على فداحة خسائرها البشرية والمادية، فرصةً لا تُعوّض لإحكام سيطرة النظام الجديد على المشهد السياسي الداخلي، وحسم الصراع مع الاتجاهات السياسية الليبرالية، ومع المجموعات الثورية ذات النزعات القومية أو اليسارية الإسلامية. وهي كانت أيضاً الفرصة الذهبية، التي أتاحت للشاب قاسم سليماني الانخراط في الحرب والترقّي السريع في المناصب العسكرية. ومع أنّ بعض الحالمين في إيران استبعد الصراع مع العراق، الذي كان يرعى معارضي الشاه، ويسمح ببثّ الإذاعات التابعة لهم، كان سير الأحداث والمواقف يتّخذ اتّجاهاً واحداً.
انعقد لقاء مفصليّ بين نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي ونائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، خلال مؤتمر منظمة عدم الانحياز في هافانا في كوبا، في أيلول من عام 1979. يزدي دعا صدام إلى زيارة إيران ومشاهدة التغييرات التي أحدثتها الثورة. صدام رحّب بالفكرة، لكنّه دخل في مطالعة طويلة عن مبادئ حزب البعث. قال يزدي: “لا أعرف كثيراً في السياسة أو الدبلوماسية. أنا هنا للتحدّث بصراحة”. فاشتكى صدام من انتقاد الصحافة الإيرانية للعراق، ومن ظهور الأكراد العراقيين المعارضين في شاشات التلفزة. وقال إنّ العراق اعترف بالنظام الجديد في طهران. أجاب يزدي: “لا يكفي الاعتراف. على العراق أن يمدح الثورة”. قال صدام: “ثورتكم هي لأنفسكم، اتركوا الآخرين يهتمّوا بشؤونهم”. ردّ يزدي مباشرة: “توقّفوا عن دعم العرب الانفصاليين، وعن إرسال السلاح إلى خوزستان”. قال صدام: “أعيدوا الجزر الإماراتية الثلاث التي احتلّها الشاه”. فقال له يزدي: “لا شأن للعراق بها”. ردّ صدام: “كلّ قضية عربية تهمّ حزب البعث”. أجاب يزدي بتهديد: “وفق هذا المنطق، يحقّ للإمام الخميني التدخّل في أيّ مسألة إسلامية في العراق”. لقد هدّد وزير الخارجية الإيراني شخصاً لا يحبّ أن يُهدَّد.
الحرب كانت الفرصة الذهبية، التي أتاحت للشاب قاسم سليماني الانخراط في الحرب والترقّي السريع في المناصب العسكرية
كان العراق يترقّب شرارات الثورة الإيرانية وتأثيراتها في الشيعة. بعد يوم واحد من سقوط الشاه، في 12 شباط من عام 1979، خطب المرجع محمد باقر الصدر في جامع الجواهري في النجف، داعياً المؤمنين إلى الالتحاق بالخميني. وفي أول نيسان من عام 1980، تعرّض نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية طارق عزيز لمحاولة اغتيال. ردّ صدام فوراً وبقوّة. قمَعَ أنصار الصدر، واعتقله، ثم أعدمه في 9 نيسان 1980. هذه الحادثة فجّرت العلاقات المهزوزة بين العراق وإيران. دعا الخميني العراقيين إلى الثورة على صدام وإسقاط نظام البعث. في 17 أيلول، مزّق صدام اتفاق الجزائر لعام 1975 بشأن النزاع العراقي الإيراني على شطّ العرب. وفي 22 من الشهر نفسه، اجتازت القوات العراقية الحدود واجتاحت مناطق إيرانية، فبدأت إحدى أكثر الحروب دمويّةً في المنطقة.
قبل أربعة أشهر، تمكّن قاسم سليماني من الانضمام رسمياً إلى الحرس الثوري في 22 أيار من عام 1980. لم يكن له رأيٌ، حتّى ذلك الحين، في السياسات الإقليمية والدولية المعقّدة. وقد غيّر اندلاع الحرب في العراق كلَّ شيء في إيران، حتّى هو، مع أنّه تسلّم في الأشهر الأولى للحرب مهمّة مملّة، هي حماية مطار كرمان، الذي لم تكن له أيّ قيمة استراتيجية أو سياسية، ولا يقع ضمن أولويات الطائرات العراقية. في تشرين الأول من عام 1980، كُلّف بتدريب المتطوعين رياضياً في معسكر القدس بكرمان. ثم أصبح من النخبة، التي أُرسلت إلى طهران، للتدرّب في دورة تدريبية سريعة في القضايا الأيديولوجية والسياسية والعسكرية في قاعدة الإمام علي. وفي مطلع عام 1981، وبعد إظهاره قدرات واعدة في الصلابة، تسلّم قيادة وحدة صغيرة من عشرين مقاتلاً، وذهب إلى الجبهة من ضمن 300 شاب من كرمان. في 29 تموز من عام 1981، أُصيب قائد معسكر القدس علي مهاجري، أثناء صدّ هجوم عراقيّ، فتولّى قاسم سليماني القيادة، ودرّب الشبّان الكرمانيّين لتنفيذ عملية “الإمام الثامن”، التي انتهت في 29 أيلول بفكّ الحصار عن مدينة عبادان.
قبل أربعة أشهر، تمكّن قاسم سليماني من الانضمام رسمياً إلى الحرس الثوري في 22 أيار من عام 1980. لم يكن له رأيٌ، حتّى ذلك الحين، في السياسات الإقليمية والدولية المعقّدة
شجّع انتصار عبادان آلاف الشبّان على التطوّع في صفوف الحرس الثوري وقوة الباسيج الملحقة به. أمّا شهرة قاسم فقد اعتمدت على موهبته في بثّ روح القتال في الجنود من حوله، وعلى المشاركة بنفسه في المعارك، التي كانت تعتمد أسلوب الموجات البشرية، وتحتاج إلى رفع معنويات الجنود الذاهبين إلى الموت. أصيب أكثر من مرّة، وعاد إلى القتال بعد العلاج.
إقرأ أيضاً: سيرة قاسم سليماني (3): لماذا رفضه الحرس الثوريّ؟
في عملية “الطريق إلى القدس” في 29 تشرين الثاني من عام 1981، كان سليماني في ناقلة مشاة سوفياتية BMP، يقود كتيبتين، ومعه شقيقه سهراب، وابن عمه أحمد. وفي معركة الدفاع عن مدينة شوش المحاصرة، برز أكثر فأكثر، وسُلّم قيادة لواء في الحرس الثوري حمل اسم ثأر الله 41. وفي 22 آذار من عام 1982، بدأت عملية “تحقيق النصر”، التي أدّت إلى إعادة القوات العراقية إلى الحدود. أعلن صدام حسين سحب قواته من الأراضي الإيرانية ووقف إطلاق النار من طرف واحد، بعد اجتياح إسرائيل للبنان في 6 حزيران من عام 1982. أصرّ قائد الحرس محسن رضائي وبعض القادة المتحمّسين على تحرير جنوب العراق والعتبات المقدسة في النجف وكربلاء، فلم توافق إيران على وقف القتال. في الوقت نفسه، ومن دون موافقة مسبقة من الخميني، ذهب رضائي وبعض قادة الحرس إلى سوريا ولبنان في خطة طويلة الأمد لمواجهة إسرائيل.
في الحلقة المقبلة: سليماني والحزب وحرب تموز 2006