أراش عزيزي Arash Azizi
مقدمة: صدر للباحث الإيراني أراش عزيزي في تشرين الثاني الماضي كتاب يتناول سيرة قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته طائرة مسيّرة أميركية قرب مطار بغداد في 2 كانون الثاني من عام 2020. عنوان الكتاب: “قائد الظلّ: سليماني، الولايات المتحدة والطموحات العالميّة لإيران (The Shadow Commander: Soleimani, The US and Iran’s Global Ambitions). أمّا الكاتب فهو صحافي إيراني كتب في “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” وفي غيرهما، وفي مواقع إلكترونية عدة. وهو يعدّ دكتوراه في جامعة نيويورك عن الجماعات الاشتراكية والإسلامية في إيران وعلاقاتها مع العالم العربي خلال الحرب الباردة. وفي ما يلي مقتطفات من الكتاب.
لم يكن للشباب الكرمانيّين، مثل قاسم سليماني وزميله فريد، أيّ دور في الأحداث التي أدّت إلى 11 شباط 1979. لكنّ الجمهورية الجديدة، التي قامت بعد تلك الثورة، ستمسّ آلاف الرجال والنساء الذين صنعوا الثورة، وستصنع حياة جديدة لعشرات الملايين. أمّا عشرات الآلاف من الشباب الذين كانوا في صفوف المعارضة وفشلوا في مواجهة الشاه، وهرب كثير منهم إلى المنفى في باريس وبيروت وغيرهما، فقد أصبحوا الآن متعطّشين للعمل لأسباب جديدة. انضمّوا إلى صفوف كثير من المجموعات التي قاتلت جميعاً باسم الثورة، تحت قيادة الخميني. وفي السنوات الثلاث القادمة، سيحدّد الصراع المستجدّ بين هذه المجموعات، مسار الثورة وجمهوريتها الإسلامية الوليدة. فبعدما رحل الشاه، من يحكم؟ أيّ نوع من النظام سيحلّ محلّ النظام الملكي؟ وماذا يكون دور آية الله الخميني الذي وحّد الائتلاف المشاكس في الطريق إلى إسقاط الشاه؟ هذه هي الأسئلة المحمومة في تلك الأيام.
ففي أوائل عام 1979، كان عدد من الجماعات المسلّحة المتنافسة، قد توزّعت السيطرة على شوارع إيران، وبعضها فقط كانت تحت إشراف حكومة مهدي بازركان المؤقتة التي عيّنها الخميني. وخلال الأيام الأخيرة المتوتّرة من النظام الملكي، كان لدى إيران بالفعل حكومتان، إحداهما تابعة للشاه برئاسة شابور بختيار، والأخرى تابعة للخميني برئاسة بازركان. بعد انتصار الثورة، انحلّت السلطة أكثر من ذلك. لقد صار لإيران الآن عدد من الحكومات المصغّرة، تتنافس كلٌّ منها بقوّتها الخاصّة، وبرؤيتها الخاصّة للثورة الكبرى، غير المخطّط لها، وغير المتوقّعة، والتي كان انتصارها في 11 شباط.
لم يكن للشباب الكرمانيّين، مثل قاسم سليماني وزميله فريد، أيّ دور في الأحداث التي أدّت إلى 11 شباط 1979. لكنّ الجمهورية الجديدة، التي قامت بعد تلك الثورة، ستمسّ آلاف الرجال والنساء الذين صنعوا الثورة
أفاد اليساريّون من خبرتهم في ساحات القتال في إقليم ظفار بعُمان في السبعينيات، ومن معسكرات التدريب في سوريا. إحدى أبرز تشكيلاتهم كانت مجموعات فدائيي الشعب (IPFG)، التي تنتمي إلى العرقية التركمانية في شمال شرق إيران وتستلهم التجربة الشيوعية في تركمانستان المجاورة. وكان لدى أكراد إيران في الغرب بمحاذاة العراق، تجربة نضالية طويلة. أمّا المجموعة الكبرى، فهي منظمة مجاهدي الشعب (PMOI)، التي جمعت بين الأفكار الإسلامية والنضالية الاشتراكية، متأثرةً بعلي شريعتي، وكان يقودها مسعود رجوي. وهي مرفوضة من الخميني ومعظم رجال الدين.
عند ذلك، وجد أنصار الخميني أنّه لا يكفي الاعتماد على لجان المساجد، حتّى بعد الاستفتاء الشعبي على طبيعة النظام الجديد في 30 و31 آذار، بعد أقلّ من شهرين من انتصار الثورة، الذي جاءت نتيجته موافقة 99,31% من المشاركين على قيام جمهورية إسلامية. فقد بدا لزاماً تأسيس قوة عسكرية رديفة للقوات النظامية من أجل حماية النظام الجديد. وعلى هذا، أنشأت حكومة بازركان بموافقة الخميني، قوة الحرس الثوري. لكن لم تكن وحدها في الميدان.
بعد سنوات، ذكر كارامي، بعبارات مشوبة بالعاطفة، كيف رفض انضمام شاب كرماني عمره 23 سنة، مظهره رياضي، شعره مجعّد، ويرتدي قميصاً ضيّقاً بأكمام قصيرة وحزاماً عريضاً
كان الناشط السياسي محمد منتظري قد أمضى سنوات في التدرّب في مخيمات منظمة التحرير الفلسطينية، والحصول على دعم مالي من الرئيس الليبي معمر القذافي. وتشكّلت منظمتان مسلّحتان إسلاميتان أخريان في طهران، هما الحزب الإسلامي الدولي (INP)، بقيادة عباس آغا زماني، الذي تأثّر بخطابات جمال عبد الناصر، وكان يتنقّل بين معسكرات “فتح” في لبنان ومكان غامض في باكستان، ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية، بقيادة محمد بروجردي (IRMO). لكن كلّ ذلك لم يكن في مستوى التحدّي المتمثّل في المجموعات الثورية اليسارية نظريّاً وعمليّاً. وكان لا بدّ من توحيد تلك المجموعات وتكوين فيالق الحرس الثوري الإسلامي (IRGC). ومن قام بهذه المهمة الحساسة هو محسن رفيق دوست، الملقّب بـ”محسن السائق”، لأنّه قاد سيارة الخميني في جولاته إثر عودته التاريخية إلى إيران. كان دوست عضواً مؤسّساً للحرس الذي أنشأته حكومة بازركان المؤقتة. في الظاهر كان ليبرالياً ومؤيّداً لبازركان، وفي الباطن كان يؤسّس لمركز قوة داخل الحرس. وبقي عليه ضمّ المجموعات الخمينية الثلاث الأخرى. وفي اجتماع مغلق ضمّه مع منتظري وزماني وبروجردي، سحب مسدسه من نوع كولت عيار 45، وقال لهم: “إنّ هدفنا واحد، لكنّكم تعملون خارج القانون. الإمام (الخميني) سمح لنا بالعمل مع الحكومة المؤقتة. إن لم تقبلوا بالانضمام إلى الحرس، فسأقتلكم ثم أقتل نفسي”. لم يكن بمقدور أحد منهم أن يرفض. وفي 22 نيسان من عام 1979، حصل التشكيل الجديد للحرس الثوري على القرار الرسمي من الخميني.
إقرأ أيضاً: قاسم سليماني قائد الظلّ: لاعب الكاراتيه ينضمّ إلى الثورة (2)
أُسّس الحرس الثوري في طهران أوّلاً، وأُرسل موفدون منه إلى المحافظات للعثور على مجنّدين من أجل الانخراط عسكرياً في مواجهة المعارضة في المناطق التركمانية والكردية. في كرمان، كُلّف غلام رضا كارامي، وهو مولود في مدينة كرمان، بتجنيد الشباب. وكان متأنّياً ومتطلّباً في اختيار الأفراد. بعد سنوات، ذكر كارامي، بعبارات مشوبة بالعاطفة، كيف رفض انضمام شاب كرماني عمره 23 سنة، مظهره رياضي، شعره مجعّد، ويرتدي قميصاً ضيّقاً بأكمام قصيرة وحزاماً عريضاً. يقول: “اعتقدت في ذلك الحين، أنّ من غير المناسب تجنيد مثل هذا الشاب في الحرس الثوري!”.
الشاب هو قاسم سليماني. لكنّه تمكّن لاحقاً من الانضمام إلى فرقة محلية احتياطية تابعة للحرس. بعد سنوات، وقد نال شهرة عالمية، كان قاسم يقول لكارامي ممازحاً: “هل تذكر الشاب ذا الأكمام القصيرة؟”.
في الحلقة المقبلة: الحرب مع العراق هديّة من السماء