محطات في سيرة سليماني: النشأة في قرية مهمّشة (1)

مدة القراءة 7 د

أراش عزيزي Arash Azizi

 

مقدمة: صدر للباحث الإيراني أراش عزيزي في تشرين الثاني الماضي كتاب يتناول سيرة قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته طائرة مسيّرة أميركية قرب مطار بغداد في 2 كانون الثاني عام 2020. عنوان الكتاب: “قائد الظلّ: سليماني، الولايات المتحدة والطموحات العالمية لإيران (The Shadow Commander: Soleimani, The US and Iran’s Global Ambitions).

الكاتب صحافي إيراني كتب في “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” وغيرها، وفي مواقع إلكترونية عدة. وهو يعدّ دكتوراه في “جامعة نيويورك” عن “الجماعات الاشتراكية والإسلامية في إيران وعلاقاتها مع العالم العربي خلال الحرب الباردة”. وفي ما يلي مقتطفات من الكتاب.

 

في قضاء رابُر (Rabor)، على بعد ساعات قليلة بالسيارة من مدينة كرمان (Kerman)، جنوب شرق إيران، وُلد قاسم بن حسن سليماني في قرية “قناة ملك” (Qanat Molk) الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها عشرات من الأُسر فقط. ولدى رابُر شيء مشترك مع عدد من المجتمعات المحلية حول العالم: مثل قرى في الأردن تستضيف بدواً استقرّوا فيها قسراً، وبلدات في التلال جنوب شرق آسيا، هي موطن للسكان البدو الذين لا يمكن أن تتسامح الدول الحديثة مع نمط حياتهم. وكان الشاه الشابّ آنذاك رضا بهلوي (حكم ما بين سنتيْ 1925 و1944) يريد إقامة دولة مركزية قوية، فعمد إلى إجبار البدو الرحّل على الاستقرار في أماكن محدّدة. وهذا التوطين الإلزامي يُعرف بالعبارة التركية: “takhte qapu”، وتعني: “بناء بوّابة خشبية”.

في محافظة كرمان الجنوبية، وليس بعيداً من مياه الخليج، لم تقم القبائل بالدور المحوري الذي كان لنظرائها في أماكن أخرى في إيران. فلم يكونوا صانعي الملوك، أو حلفاء الثوار، أو المسلّحين المتواطئين مع الحكومات الأجنبية، ولكن كان لديهم التاريخ التجاري الأكثر تنوّعاً. أمّا مركز المحافظة فلا يبعد كثيراً من بندر عباس، الميناء القديم على الخليج، وهو الذي حصل على اسمه الحالي عندما هزمت قوات شاه عباس البرتغاليين عام 1622، واستعادت السيطرة عليه بعد قرن من الهيمنة الأوروبية. مع ذلك، لم تتوقّف حركة التجار الإنكليز والهولنديين والبرتغاليين في جنوب إيران، وكلّ قبيلة تتباهى بحكاياتها مع التجّار الأوروبيين ومع الإمبراطوريات.

بحلول عام 1956، وهو عام ولادة قاسم، بدأت تظهر آثار سنوات من قمع الدولة المركزية. فقبائل كرمان لم تعد تتعامل مع التجار الدوليين كما في السابق، وباتت على هوامش القوة والثروة في إيران الحديثة. كان برنامج التوطين القسري مكثّفاً في ذاك الوقت. وأدّت سنوات متتالية من الجفاف السيّئ إلى نفوق المواشي. كانت القبائل مدمّرة وتكافح من أجل إيجاد سبل جديدة للعيش: ستُعدّ الفتيات للمشاركة في صناعة السجّاد الكرماني الشهير لبيعه في الأسواق، في حين أنّ الشباب الرجال سيتعلّمون القيادة، ربّما ليصبحوا سائقي شاحنات، وسيُربط وسط إيران وجنوبها بالموانئ الواقعة على الخليج عبر الطرق التي اهتمّ الشاه الجديد ببنائها، ابن رضا، محمد رضا (حكم بين عاميْ 1941 و1979). مع ذلك، تمسّك البعض ببنادقهم متوارين عن الحكومة المركزية، وممتهنين قطع الطرق، أو الانخراط في الجرائم الصغيرة.

في محافظة كرمان الجنوبية، وليس بعيداً من مياه الخليج، لم تقم القبائل بالدور المحوري الذي كان لنظرائها في أماكن أخرى في إيران. فلم يكونوا صانعي الملوك، أو حلفاء الثوار، أو المسلّحين المتواطئين مع الحكومات الأجنبية، ولكن كان لديهم التاريخ التجاري الأكثر تنوّعاً

في ذلك الوقت، لم توجد صناعة ولا معامل، وهي غير موجودة اليوم. لم يكن فيها ما يجذب السياح في محافظة فارس المجاورة، لمشاهدة آثار الإمبراطوريات الفارسية القديمة. لم يخرج منها شخصية تاريخية كبيرة، ولا اشتُهر فيها شاعر كبير، ولا عالم من الزمن الإسلامي المضيء.

بالمقابل، يزعم سكان  القرية انتماءهم إلى قبيلة فرعية معيّنة. إنهم جميعاً تقريباً يحملون اسم العائلة نفسها: سليماني، أي شعب سليمان (النبي سليمان المذكور في التوراة)، الملك الأسطوري لليهود الذي يؤمن المسلمون بحماسةٍ بقدراته لكونه من نسل النبي إبراهيم.

ويعود وجود السليمانيين في كرمان إلى القرن الثامن عشر عندما اختاروا الاستقرار هناك في طريق العودة من شبه القارة الهندية، حيث قاتلوا تحت قيادة الملك الفارسي الأسطوري نادر شاه (حكم ما بين عاميْ 1736 و1747)، أو هكذا زعموا. وهذا ما أعطاهم الأفضلية على القبائل العديدة التي نزحت قبلهم بعقود قليلة أو خلال الاضطرابات التي وقعت في القرن التاسع عشر. وتفتخر القرية بأشجار الجوز الجميلة وتزعم أنّها الأقدم في العالم.

إنّه قاسم، الذي سيغيّر مصير هذه القرية الصغيرة وأبعد من ذلك بكثير. هو سيعطي هذا الجزء من كرمان أول شهرة حقيقية، وهو أول من سيصنعها. سيكون قاسم معروفاً ليس فقط في مركز المحافظة، كرمان، ولكن في طهران والعواصم العربية القديمة التي لم يسمع عنها سكان القرية إلا في الحكايات: دمشق، بيروت، بغداد. حتى إنّه سيكون موضع ترحيب وتكريم في موسكو، إحدى العاصمتين العظمييْن في العالم. وستظهر صورته على ما لا يُعدّ ولا يُحصى من أغلفة المجلات في جميع أنحاء العالم، فكان هذا الأمر باعثاً لمشاعر الخوف والبغض في مناطق بعيدة عن أشجار الجوز اللطيفة في وسط كرمان.

يعود وجود السليمانيين في كرمان إلى القرن الثامن عشر عندما اختاروا الاستقرار هناك في طريق العودة من شبه القارة الهندية، حيث قاتلوا تحت قيادة الملك الفارسي الأسطوري نادر شاه

أفادت القرية من صعود الصبي الصغير الذي أصبح اللواء قاسم سليماني. فبمساعدة الجنرال، ستحصل “قناة ملك” على وسائل الراحة أسرع من القرى الأخرى. وسوف تتباهى القرية بورشة إنتاج الأدوية العشبية، وبمسجد ضخم، بناه جزئياً، الأب الفخور نفسه، الحاج حسن سليماني، الذي لم يغادر قريته الصغيرة، المكوّنة من 300 عائلة أو نحو ذلك، حتّى وفاته في عام 2016 في سن الخامسة والتسعين.

جنّد الجنرال قاسم كثيراً من أبناء محافظة كرمان لملء صفوف “الجمهورية الإسلامية”. وهو نظام بُني أساساً باسم المهمّشين. لكن قبل إعطاء هؤلاء أيّ شيء، كانت الجمهورية بحاجة إليهم لأداء ذلك الواجب القديم: “الموت من أجل الأمّة”. هذا أمر كان قاسم جيداً جداً فيه: تعبئة الناس للقتال والموت. وما بدأه مع القبائل الكرمانية، سيكرّره مع نجاح مذهل في أراضٍ بعيدة عن قريته الهامشية. لكن قبل أن يتمكّن من الوصول إلى هناك، كان عليه أن يخرج من “قناة ملك”.

إقرأ أيضاً: لن نعبدَ أصنام سليماني

كانت المفارقة في يوم ولادة قاسم تتمثّل في كون أسرته لم تكن تملك أيّ أرض لولا الثورة البيضاء التي أعلنها الشاه، فمنح الأراضي للفئات المهمّشة. وكان يمكن أن يجعلهم هذا محبّين للشاه مدى الحياة. لكن تنفيذ المشروع تنفيذاً سيّئاً سينقل أسرة سليماني من حالة عدم امتلاك أرض إلى حالة الرزوح تحت وطأة الديون. ولم يكن والده بقادر على توفير ما ينبغي توفيره لأسرته، لكن الفتى اللامع بكل المقاييس، كان ذكياً بما فيه الكفاية، كي يكمل دراسته ويلتحق بالجامعة. وبسبب فقره، كان يحتاج إلى أن يعمل في الوقت نفسه، فانخرط في أشغال البناء في مرحلة مبكرة من عمره. وفي عام 1975، وكان في سنّ الثامنة عشرة، عثر على وظيفة في مؤسسة مياه كرمان، حيث عُيّن مساعداً في قسم العلاقات العامة. وكان عليه الانتقال إلى مدينة كرمان على بُعد مئات الكيلومترات من منزله. وكانت هذه الخطوة الأولى لتوسيع آفاقه.

 

غداً في الحلقة الثانية:

قاسم سليماني قائد الظل: لاعب الكاراتيه ينضم إلى الثورة

مواضيع ذات صلة

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…

من يُنسّق مع باسيل بعد وفيق صفا؟

بات من السهولة رصد تراكم نقاط التباعد والفرقة بين التيّار الوطني الحرّ والحزب. حتّى محطة otv المحسوبة على التيّار أصبحت منصّة مفتوحة لأكثر خصوم الحزب شراسة الذين…