ما حقّقه حزب الله منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية خريف عام 2016 حتى إشعار آخر، هو التأكيد للّبنانيين جميعاً، وللموارنة خصوصاً، أنّه صانع الملوك والناخب الرئاسي الأوّل. وحده النائب السابق نوّاف الموسوي جاهر بهذه الحقيقة تحت قبّة البرلمان، حين اعترف أمام كل اللبنانيين بأنّ بندقية حزب الله (“المقاومة”، بحسبه) هي من أتت بعون رئيساً.
لا مناص من التوقّف عند هذه القاعدة العاكسة لميزان القوى على الأرض قبل محاولة فهم خارطة المواقف السياسية من التوسعة المفاجئة للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان بينه وبين إسرائيل، ورفعها من 860 كلم مربعاً إلى 2300 كلم مربع.
ما يعنيني هنا، تحديداً، هو مواقف القوى المسيحية المارونية، التي تشمل رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، وقائد الجيش الجنرال جوزيف عون، وحزب القوات اللبنانية عبر موقف نائب رئيس الحزب جورج عدوان.
1 – الرئيس:
على الرغم من توقيع كلّ من وزيرة الدفاع ووزير الأشغال ورئيس حكومة تصريف الأعمال على مرسوم تعديل المرسوم رقم 6433 المتعلّق بترسيم الحدود البحرية جنوباً، فقد اختار رئيس الجمهورية عدم التوقيع على مرسوم تعديل المرسوم، وهو ما يخالف مواقفه السابقة. إذ سبق أن أعلن رئيس الجمهورية أكثر من مرّة أنّ ما يطرحه الوفد اللبناني هو حقّ لا يمكن التفريط به، ووصل به الأمر إلى الدفع باتجاه تخوين كل من يتنازل عن خطّ النقطة 29 منطلقاً لحدود التفاوض مع إسرائيل، والتي تتوسع بموجبها المنطقة الاقتصادية الخالصة كما ينص التعديل على المرسوم.
مع ذلك من الصعب وضع موقف عون المستجدّ في خانة التناقض مع حزب الله، فمن المناسب له تماماً تفخيخ المفاوضات بمواقف ذات سقوف عالية تؤدّي عملياً إلى وقف التفاوض مع اسرائيل.
لا مناص من التوقف عند هذه القاعدة العاكسة لميزان القوى على الأرض قبل محاولة فهم خارطة المواقف السياسية من التوسعة المفاجئة للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان بينه وبين إسرائيل، ورفعها من 860 كلم مربع إلى 2300 كلم مربع
فعون يريد من موقفه هذا أن يبعث برسائل إلى الولايات المتحدة تفيد بأنّه صاحب قرار يهمّ واشنطن، وأنّ على واشنطن أن تتفاوض معه، وأن تتراجع عن العقوبات المفروضة على صهره ووريثه جبران باسيل، إن كانت ترغب في تحقيق أهدافها في ملف النفط والغاز. وهي أهداف لا يرى حزب الله ضرراً له فيها.
2 – قائد الجيش:
في حزيران 2018 أتمّت مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني دراسةً مبنيةً على مسحٍ للشاطئ اللبناني الجنوبي أُجريت عام 2014، وخلصت إلى تحديدٍ للمنطقة اللبنانية الخالصة، يعطي لبنان مساحة 1430 كم2 فوق الـ860 كم2 المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. وسمّي الخط الجديد: “الخطّ 29”.
منذ ذلك التاريخ ينظّم الجيش ندوات ويدير حملة علاقات عامة وتوعية تهدف إلى تعميم وترسيخ القناعة بحقوق لبنان الجديدة، على الرغم من تجاهل سياسي سابق للخلاصات التي وصل إليها الجيش اللبناني.
سيكون من الصعب جداً، إزاء عدم متانة الأدلّة المقدّمة، فصل موقف قائد الجيش عن سياق المزايدات المتعلقة بملفّ رئاسة الجمهورية. بصراحة ووضوح، يحتاج المرء إلى الكثير من حسن النية كي يسقط عن قائد الجيش جوزيف عون – الذي راكم رصيداً وطنياً خلال السنوات الماضية عبر “التصادم الصامت” مع حزب الله – شبهة محاولته الآن تقديم أوراق اعتماد لحزب الله في ملف لا يثير الكثير من الحساسيات في الداخل اللبناني. فمن المناسب جداً لحزب الله أن يتلطّى خلف موقف الجيش اللبناني، الذي يعطي الحزب ذريعة ذهبية للتأسيس لمزارع شبعا بحرية، وفي الوقت نفسه لا يواجه موقف الجيش وقائده اعتراضاً شعبياً مقلقاً.
3 – القوات اللبنانية:
في إطلالة إعلامية أخيرة قال رئيس لجنة الإدارة والعدل النيابية جورج عدوان إنّ “موضوع تعديل المرسوم 6433 يتّسم بأهميّة وطنيّة كبرى، لأنّه موضوع سيادي ويتعلّق بحقوق كلّ لبنان من دون استثناء، وبسيادة لبنان على بحره وأرضه”، مبيّناً “أنّنا نملك لجنة تفاوض تتمتّع بالحرفيّة، ومن واجبنا نحن اللبنانيّين أن نقف وراءها، وفي نهاية المطاف تبقى الدولة اللبنانية والجيش هما الأحرصيْن على الدفاع عن لبنان”.
يجري الجيش ندوات ويدير حملة علاقات عامة وتوعية تهدف إلى تعميم وترسيخ القناعة بحقوق لبنان الجديدة، على الرغم من تجاهل سياسي سابق للخلاصات التي وصل اليها الجيش اللبناني.
حسن النيّة في قراءة موقف عدوان يوصل إلى أنّ الموقف هو مزايدة على عون الرافض لتوقيع مرسوم تعديل المرسوم. ويؤدّي حسن النية أيضاً إلى افتراض أنّ عدوان والقوات يقومان بحفلة مزايدة “وطنية” في ملفّ لا يغيّر موقفهم منه الكثير، الأمر الذي يدفعهم إلى اختيار الموقف الأضمن، وهو التصعيد في وجه اسرائيل، لحصد سمعة وطنية في الداخل.
أمّا سوء النية في تفسير الموقف فيوصل إلى أنّ عدوان والقوات يقدّمان أوراق اعتماد لحزب الله في سياق يتّصل بانتخابات رئاسة الجمهورية. أميل شخصياً إلى ضعف الاحتمال الثاني هذا، حيث إنّ هوّة الشكّ بين الفريقين كبيرة إلى الحدّ الذي لا يُبقي مساحة حقيقية لتسويات وتفاهمات تتّصل بملف استراتيجي كملف انتخاب رئيس للجمهورية، ولو من بوابة ملفّ حيويّ لحزب الله، يعطيه ذريعة صلبة تجدّد شرعية احتفاظه بسلاحه.
إقرأ أيضاً: ميشال عون الضائع بين الحقيقة والخيال
من الصعب تصديق أنّ معجزة علمية فقط أوصلت إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بزيادة 1430 كلم مربعاً. فإذا كانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أخطأت قبل عام 2011 بتحديد النقطة التي على أساسها تُعرَّف المنطقة الخالصة، حارمةً لبنان من مساحة 860 كلم مربعاً، فإنّ حكومة حزب الله برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي أخطأت عام 2011 بأن اعتمدت نقطة تحرم لبنان من 1430 كلم مربعاً إضافية.
والآن يتحدّثون عن نقطة ثالثة موثّقة بخرائط وتعريفات ومحدّدات لم ترد في السابق. إنّ انعدام الجدّية، الذي يعكسه هذا التخبّط، يسهّل القفز إلى استنتاحات سياسية تبدو أقرب إلى التكهّن.
حتّى إشعار آخر وحتّى تقديم مطالعة علمية مثبتة بدراسات من أكثر من جهة، تبدو مواقف الأطراف، ولا سيّما المارونية، مدفوعة بحسابات انتخابات رئاسة الجمهورية، وبمحاولة إرضاء حزب الله من كيس لبنان واللبنانيين.